مركز مقاربة للدراسات الإعلامية
مقدمة
تشهد عدد من المناطق شمالي الضفة الغربية تصعيدا إسرائيليا واسعا صاحبه حالة نزوح لعشرات الآلاف من المواطنين من منازلهم في مخيمات جنين وطولكرم والفارعة وطوباس، وقد صاحب ذلك حراكا إعلاميا رسمي وغير رسمي تركز على نقل الصورة.
يسعى هذا التقرير إلى فهم أبعاد تغطية أحداث النزوح في شمال الضفة الغربية وكيفية تعاطي الإعلام معها، لا سيما الخطاب والإعلام الرسمي، وكيفية معالجته للحدث، فضلا عن سعي التقرير إلى قراءة تفاعل الناس مع الحدث.
الخطاب والروايات الرسمية
غطّى الإعلام الرسمي الفلسطيني أحداث تهجير أهالي مخيم جنين والفارعة وطولكرم، مسلطًا الضوء على معاناة المواطنين والانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي. وقدمت وسائل الإعلام تقارير مباشرة ومفصلة حول عمليات الاقتحام والتهجير القسري التي تعرضت لها هذه المناطق. وقد ركزت تغطية تلفزيون وإذاعة فلسطين ووكالة وفا على تغطية نزوح المواطنين، وسلطت الضوء على الظروف الصعبة التي يواجهها النازحون جراء هذه الاعتداءات. بالإضافة إلى ذلك، اهتمت بتصريحات المسؤولين الفلسطينيين الذين أدانوا هذه الانتهاكات.
على صعيد التصريحات الرسمية، أكد محافظ طولكرم اللواء عبد الله كميل أن ما يجري في الضفة الغربية هو مخطط سياسي احتلالي يستهدف المخيمات الفلسطينية كونها شاهدة على النكبة، مشددًا على أن الاجتياح جاء بقرار سياسي من حكومة الاحتلال. وأوضح أن بين 80-85% من سكان مخيم طولكرم أُجبروا على النزوح قسرًا نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية. كما وصف ما يحدث بـالكارثة الإنسانية، مؤكدًا أن الاحتلال يسعى إلى خلق بيئة طاردة للسكان في المخيمات لمنع قيام دولة فلسطينية وإضعاف السلطة الوطنية. وفي حديثه لوكالة الأناضول التركية، أشار كميل إلى أن الاحتلال هدم 1000 منزل في مخيمي طولكرم ونور شمس خلال سلسلة من الاجتياحات المتكررة، مؤكدًا أن ما يحدث في طولكرم هو بمثابة “غزة مصغرة”. وأضاف أن الاحتلال نفذ 62 عملية عسكرية في المخيمين، مؤكدًا أن الفلسطينيين لن يغادروا أرضهم مهما تصاعدت الضغوط.
من جهته صرّح مساعد محافظ جنين، منصور السعدي، بأن إسرائيل دمرت مخيم جنين بالكامل، ما أدى إلى تهجير 20 ألف فلسطيني قسرًا. وأضاف أن الاحتلال بدأ يلعب دور الشرطة داخل جنين، حيث يقوم بتحرير مخالفات للمركبات، في محاولة لفرض سيادته العسكرية على المخيم وترسيخ واقع جديد.
من جانبه أكد محافظ طوباس والأغوار الشمالية، أحمد الأسعد، أن ما يحدث في مخيم الفارعة هو عدوان شامل يستهدف تهجير السكان بالقوة. وذكر أن الاحتلال يدمر البنية التحتية للمخيم، ويمنع وصول الماء والدواء كوسيلة ضغط لإجبار الأهالي على المغادرة، إلا أن سكان المخيم رفضوا الخروج رغم التهديدات الإسرائيلية.
وأكد رئيس الوزراء محمد مصطفى، خلال ترؤسه اجتماعًا للجنة الوزارية للأعمال الطارئة، على أهمية تكثيف الجهود الإغاثية لدعم العائلات النازحة في شمال الضفة الغربية. وأعلن عن توجيهات بإدارة ملف الإيواء المؤقت بالتنسيق مع وكالة الأونروا، والصناديق العربية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. كما تم الاتفاق على تسيير 8 شاحنات محملة بالمواد الإغاثية وحليب الأطفال إلى جنين وطولكرم، مع العمل على إرسال المزيد. وأضاف مصطفى أن اللجنة ستواصل جهودها لحصر الأضرار وإعادة تأهيل ما دمره الاحتلال، مؤكدًا أن السلطات الفلسطينية تعمل على إصلاح شبكات المياه والكهرباء في المناطق المتضررة.
كما وصف رئيس بلدية طولكرم، رياض عوض، الوضع في المدينة بأنه كارثي، مشيرًا إلى شلل تام في الخدمات والمؤسسات جراء العدوان الإسرائيلي. وأوضح أن نحو 10 آلاف فلسطيني نزحوا من مخيم طولكرم، حيث لجأ بعضهم إلى مراكز الإيواء أو منازل الأقارب والقرى القريبة. كما أكد أن الاحتلال دمر البنية التحتية، بما في ذلك خطوط المياه والكهرباء والمنازل، إلى جانب توسيع شبكة الطرق العسكرية.
وأكد عضو اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين، مؤنس غريب، أن جنين تعيش شللًا تامًا في جميع الخدمات والمؤسسات، مشيرًا إلى أن غالبية النازحين لجأوا إلى منازل الأقارب أو استأجروا مساكن مؤقتة. كما شدد على أن فكرة تحويل المدارس إلى مراكز إيواء ليست حلًا مناسبًا، نظرًا لانعدام الخصوصية للعائلات النازحة.
صحيح أن المعطيات المستخدمة في التصريحات تعكس حجم الأزمة، لكنها تثير تساؤلات حول دقتها ومضامينها، فعلى سبيل المثال أشار محافظ طولكرم إلى أن 80-85% من سكان مخيم طولكرم نزحوا قسرًا، وهو تقدير مرتفع جدًا مقارنة بعدد سكان المخيم، حيث يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في المخيم 27,631 حتى عام 2023 وفق الأنروا.
قد يكون التركيز على نسب اللجوء أسلوبا إعلامية للفت الانتباه الدولي، حيث يعتمد الخطاب الفلسطيني على إبراز الأبعاد الإنسانية الكبيرة للأزمة لكسب تعاطف الرأي العام العالمي. لكنه في المقابل، قد يؤدي إلى إثارة الخوف لدى الناس .
من الواضح أن الإعلام الرسمي الفلسطيني يتبنى رواية موحدة تشمل التأكيد على حجم الكارثة والدمار، وموضوع المساعدات، دون ذكر أي تفاصيل عن العمليات العسكرية الإسرائيلية أو فضح ممارسات الاحتلال غير الإنسانية بحق الناس المدنيين. مثل تأثير النزوح على الأطفال، أو ضعف الاستجابة الدولية، وهي قضايا يمكن أن تعزز الخطاب الفلسطيني إذا تم تناولها بشكل أكثر توازنًا.
يلاحظ تركيز الخطاب الرسمي على الخطاب الإغاثي دون السياسي حتى التلويح بالمحاكم الدولية أو الحراك على مستوى دولي لوقف العدوان لم تتضمنه تصريحات مسؤلي السلطة.
يواجه الباحث عن معلومات وأرقام موثقة ومدعومة بإحصائيات رسمية أو تقارير منظمات حقوقية معضلة كبيرة في توفرها، وهذا يؤثر في تدعيم الرواية الفلسطينية، ما يشير إلى تقصير رسمي في الخطاب الإعلامي الذي ينبغي أن يهتم بالتوثيق ودعم الرواية بما تتطلبه ليسهل الاستفادة من البيانات في إنتاج المواد الإعلامية المختلفة.
اتجاهات التغطية الإعلامية
اهتمت مختلف وسائل الإعلام الفلسطينية من إذاعات وفضائيات ومنصات رقمية في تغطية أحداث التهجير، وعلى صعيد الإعلام الرسمي المتمثل بتلفزيون فلسطين قام بتغطية الأحداث بصورة مباشرة وأولى اهتماما كبيرا في استضافة المحافظين والمسؤلين بشكل دوري إضافة إلى مداخلات مع شبكة مراسليه في المحافظات المستهدفة، وما يلاحظ من خلال متابعة المنصات الرقمية أن تصريحات مسؤلي السلطة تجاه الأحداث تقابل بالسخرية والتعليقات السلبية في عمومها على منصات التواصل الاجتماعي.
تشير اتجاهات تغطية تلفزيون فلسطين إلى إبراز دور المحافظين والسلطة في تقديم العون والمساعدة والإغاثة للنازحين في سياق تغطية تهدف إلى العلاقات عامة.
من جهة أخرى، اتسمت تغطية قناة الجزيرة بالاستمرارية والمواكبة بالرغم من منعها من العمل في الضفة الغربية من قبل السلطة الفلسطينية، فضلا عن تغطية بعض القنوات العربية الأخرى مثل العربي.
اتجهت تغطية بعض وسائل الإعلام الرقمية الكبيرة إلى نشر منشورات تحمل مبالغات في عدد النازحين كما نشرت دوز في منشور قالت أن عدد العائلات المتبقية في مخيم الفارعة قليلة جدا، وبعد سيل التعليقات المفندة للمنشور تم إعادة نشر معلومات جديدة تفيد بنا على تعليقات الناس

كما اتجهت بعض الصفحات الإعلامية إلى خطاب يلقي اللوم على جهات فلسطينية كسبب فيما يحدث، وقد حملت بعض المنشورات نص: “شوفوا إيران إيش عملت في الفارعة أو طولكرم “؟ في إشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية التي تتلقى دعما من إيران، كما لوحظ خطاب يركز على دور الأجهزة الأمنية والدفاع المدني في تقديمهم للمساعدات للمخيمات المنكوبة.

التفاعل الشعبي واتجاهاته
بالرغم من الاهتمام الكبير الذي تزامن مع بدء عملية نزوح السكان،إلا أنه يلاحظ تراجع تفاعل الناس في المحافظات المختلفة عموما مع عملية تهجير السكان من منازلهم حيث تأثر التفاعل بالأحداث المتزاحمة التي صرفت الاهتمام إليها سواء تلك التي جاءت في سياق طبيعي أو تلك التي تختلق عمدا لصرف الاهتمام.
- المشاعر السائدة
يغلب على التعليقات الحزن والغضب والتعاطف مع النازحين، وتكرار عبارات مثل “حسبي الله ونعم الوكيل”، “الله يكون بعونهم”و”لا حول ولا قوة إلا بالله”،و “الاحتلال يجبرهم بالقوة“ يعكس الاستياء الشديد من الأوضاع. وهناك مشاعر الإحباط واليأس في بعض التعليقات، خاصة عند الحديث عن الدور الرسمي.
بعض التعليقات تتسم بالتساؤل والاندهاش، مثل: “أين السلطة؟”، “أين الإعلام؟”، “أين حماة الوطن؟“، مما يشير إلى فقدان الثقة في الجهات المسؤولة.
- النقد السياسي للسلطة
يبرز في تعليقات الناس انتقاد واضح للسلطة الفلسطينية واتهامها بالتخاذل عن حماية المواطنين، فضلا عن مخاوف من مخططات إسرائيلية لتفريغ الضفة الغربية من السكان بهدف التوسع الاستيطاني،
هناك اتهامات واضحة للسلطة الفلسطينية بالتقصير، كما يظهر في تعليقات مثل: أين السلطه التي تحارب الخارجين عن القانون؟“والناطق الإعلامي تبع السلطة وينه عن هالحكي؟“ وعباس مش قادر يحمي مخيم الفارعة كيف بطالب يحكم غزة؟“
هذه الانتقادات تعكس إحباطًا كبيرًا من الأداء السياسي، ويشير إلى شعور بعدم وجود دعم حقيقي للسكان المتضررين، ويلاحظ أن هنالك نسبة قليلة ممن تثني على جهودهم وخاصة تصريحات المحافظين ولكن الغالبية تبدي امتعاضاً واستياء من أدوارهم التي كانت وصفت بأنها مجرد مؤسسة إحصائية لا تقدم حلولا للمواطنين.
- التشكيك في نسب النزوح
هناك جدل حول عدد النزوح الحقيقي، حيث يرى بعض المعلقين أن الأرقام مبالغ فيها وأن هناك تهويلاً إعلاميًا قد يساهم في نشر الذعر. والبعض يشير إلى أن المخيمات ما زالت صامدة، وأن الأخبار التي تفيد بأنها فارغة غير دقيقة، والمخاوف من تأثير التهويل على زيادة موجات النزوح وتسهيل تنفيذ مخططات الاحتلال.
- البعد الإنساني والاحتياجات اليومية
يُعد نقص الغذاء والمياه والمستلزمات الطبية دافعًا رئيسيًا لنزوح بعض العائلات، خاصةً المرضى وكبار السن، وقد دعت بعض التعليقات إلى تنظيم المساعدات وتوفير الدعم للنازحين دون استغلال وضعهم إعلاميًا. وهناك إشادة ببعض المبادرات المجتمعية التي قدمت مساعدات للنازحين، لكن هناك أيضًا اتهامات بأن بعض الجهات تمنع جمع التبرعات دون تصريح رسمي.
- استدعاء الذاكرة التاريخية
تربط بعض التعليقات ما يحدث بمجازر سابقة مثل دير ياسين عام 1948، مما يشير إلى خوف من تكرار السيناريو التاريخي. كما يربط بعض المعلقين الوضع الحالي بأحداث أخرى، مثل: “هذه إنجازات أوسلو الانهزامية بعد الانتفاضة الأولى“، في إشارة إلى تداعيات اتفاقية أوسلو.
- المقارنات بين غزة والضفة
بعض المعلقين يقارنون بين الأوضاع في غزة والضفة، حيث يشيرون إلى أن الضفة الآن تمر بتجربة مشابهة لما حصل في غزة، لكن دون دعم مماثل، وآخرون يلومون بعض الأطراف التي سبق أن بررت جرائم الاحتلال ضد غزة، متسائلين عن موقفهم الآن من الأحداث في الضفة.
- البعد الاجتماعي والتضامني
هناك مخاوف من تفكك المجتمع الفلسطيني نتيجة النزوح المستمر، مع التأكيد على الصمود والثبات في مواجهة التهجير، حيث تعكس بعض التعليقات رغبة في عدم الاستسلام والتمسك بالأرض. وتبرز انتقاد لبعض الأشخاص الذين يروجون للإشاعات أو يستخدمون المأساة لتحقيق مكاسب شخصية.
رغم الحزن والغضب، هناك تعليقات تدعو إلى الصبر والتكاتف ودعم صمود الناس، مثل: “يا شباب طولكرم بتعاني ولازم نوقف جنب أهلها”، و”مخيم نور شمس رح ترجعوا بإذن الله ونعمرها من جديد”، و”سنزرع جذور الصبر والتين وورد الياسمين” وفي استخدام رمزي قوي يعبر عن الأمل والتمسك بالوطن.
- دور الإعلام
هناك انتقاد للإعلام الرسمي وتجاهله للمعاناة، تعبر عنه عبارات مثل: “ليش قناة الجزيرة محظورة؟”، و”الإعلام كله مقصر في حق المخيمات”، ما يشير إلى الإحساس بأن التغطية الإعلامية غير كافية أو منحازة.
تعكس تعليقات الجمهور حالة غضب واستياء عارم من الأوضاع، وهناك فقدان للثقة في السلطة والإعلام، ورغبة في تحميل جهات محددة المسؤولية. في مقابل الإحباط، هناك روح تضامنية ودعوات للصمود والتحدي.
خلاصة
ساهم تغييب قناة الجزيرة بالاضافة الى منع الاحتلال طواقم الصحفيين من الاقتراب من المخيمات بعد تصويرهم وتصوير هوياتهم وتحذيرهم من الاقتراب من المخيمات، في إضعاف التغطية الإعلامية وتسهيل مهمة تهجير الفلسطينيين في جو لا يحمل ضجيجا إعلاميا، وقد ألقى ذلك بصداه على تفاعل الناس في المحافظات الأخرى حيث أنهم باتوا غير مدركيين لحقيقة ما يجري بسبب تغييب الصورة عنهم.
يعكس تفاعل الجمهور حالة الغضب الشعبي والرفض الجماعي للتهجير القسري، وهناك تشكيك في بعض الروايات الإعلامية حول حجم النزوح، مع التأكيد على أن معظم النازحين أُجبروا تحت التهديد أو بسبب الظروف القاسية. وتكشف التعليقات غضبا من السلطة الفلسطينية وانتقادات لها لا سيما أن ما جرى كان عقب حملة حماية وطن.


