مركز مقاربة للدراسات الإعلامية
مقدمة
يُعد التحليل السيميائي من أهم الأدوات المستخدمة لفهم الرسائل البصرية واللغوية في الوسائط الإعلامية، حيث يكشف عن الرموز والمعاني المخفية التي تسعى الجهات الفاعلة إلى إيصالها للجمهور. في هذا السياق، يأتي فيديو “كتائب القسام تسلم الدفعة السادسة من المحتجزين الإسرائيليين في غزة“ كأحد الأمثلة البارزة التي تعكس استخدامًا مدروسًا للرموز البصرية، اللغوية، والصوتية لإيصال رسائل سياسية وعسكرية ذات أبعاد متعددة.
يتناول هذا التحليل كيفية توظيف كتائب القسام للعناصر البصرية، مثل الملابس وحركات الجسد والمكان، في بناء صورة إعلامية تعزز موقفها في الصراع، إلى جانب تحليل الرموز اللغوية المكتوبة والشفهية، وتأثير العناصر الصوتية مثل الموسيقى والصمت الاستراتيجي. كما سيتم تسليط الضوء على تقنيات الإخراج والتصوير التي تم استخدامها في الفيديو لإبراز القوة العسكرية، وإحداث تأثير نفسي على المشاهدين.
يهدف هذا التحليل إلى فك شفرة هذه الرموز والكشف عن الرسائل التي يحملها الفيديو، لفهم أعمق لكيفية تشكيل الرأي العام وتوجيه السرد الإعلامي في سياقات النزاعات والصراعات المعاصرة.
- الرموز البصرية (Visual Signs)
- اللباس
لباس الأسرى: تعمدت كتائب القسام استخدام الملابس لإيصال رسائل مختلفة، حيث ارتدى الجنود الإسرائيليون المحتجزون زياً عسكرياً أخضر، مما يؤكد وضعهم كمقاتلين، في حين ارتدى المدنيون منهم ملابس تبرز أنهم أسرى مدنيين تم أسرهم من منازلهم. كما أن توحيد زي الأسرى لدى القسام يعكس انضباطاً عسكرياً منظمًا لديهم.
لباس مقاتلي القسام: يعتمد مقاتلو القسام على زي عسكري مموه أو أسود، مما يرمز إلى القوة والانضباط العسكري. إلى جانب ذلك، ترتدي كل وحدة في القسام لباسها المميز، مما يشير إلى استمرار عمل القسام كمؤسسة عسكرية منظمة، رغم مزاعم الاحتلال بتفكيك بنيته. كذلك، ارتداء الأقنعة يعكس رسالة بأن المعركة لا تزال مستمرة، بينما يظهر بعض القادة بوجوه مكشوفة لنفي ادعاءات الاحتلال بقتلهم خلال المعارك. كما يرتدي بعض المقاتلين زي جنود الاحتلال، في إشارة إلى الغنائم العسكرية وتذكير الاحتلال بأحداث 7 أكتوبر، وفيها رسالة استفزاز بأن النصر المطلق لم يتحقق.
- حركات الجسد
بدا مقاتلو القسام واثقين في تحركاتهم، حيث كانوا يتلقون الأوامر بالإشارة ويتحركون بانضباط، مما يعكس جاهزيتهم لأي سيناريو محتمل. أما الأسرى الإسرائيليون، فبدا عليهم الهدوء والثقة في آسريهم، حيث ظهرت الابتسامات على وجوههم، مما يعكس شعورهم بالأمان. كما أن حمل مقاتلي القسام للأسلحة الإسرائيلية يشير إلى نجاحهم في العمليات القتالية والاستيلاء على معدات العدو.
تعكس الطاولة الفارغة في المشهد أن عملية التسليم تمت من خلال مفاوضات واتفاقات وليس تحت الضغط العسكري، فضلا عن دلالات الختم والتأني في الضغط عليه كبروتوكول يتيح الوقت لالتقاط الصور.
- المكان
تم التسليم في مدينة خانيونس، وهو اختيار ذو دلالات متعددة، حيث أرادت القسام إبراز المناطق التي تعرضت للقصف والدمار، وأنهم صامدين بالرغم من كل ذلك ولن يهجروا أرضهم. كما أن المكان المختار كان مفتوحًا، آمنًا، ومنظمًا بشكل كبير، ما يعكس الجهوزية والتخطيط العسكري الدقيق.
من الرموز البصرية التي بدت في المشهد الهدية التي قدمها عناصر القسام لأحد الأسرى بمناسبة ولادة ابنته أثناء الأسر، وهي عبارة عن ساعة رملية ، وفي ذلك دلالات متعددة، منها اللفتة الإنسانية التي تحمل قيما سامية، والتي تعكس الفارق الكبير مع الآسرين الإسرائيليين وتعاملهم مع الفلسطينين، إضافة إلى رمزية الساعة وارتباطها دلاليا بالوقت كرسالة للحكومة الإسرائيلية بالاهتمام بموضوع الأسرى والاستمرار بمراحل الصفقة.
- الرموز اللغوية (Linguistic Signs)
اللافتات والرسائل المكتوبة: تضمن الفيديو لافتات بشعارات مثل “لا للتهجير“ و*”لا هجرة إلا للقدس”*, باللغات العربية، والإنجليزية، والعبرية، مما يرسّخ رفض التهجير والتأكيد على الحقوق الفلسطينية، وأن القادم هو العودة والتحرير وليس التهجير. كما ظهرت أعلام الدول العربية، في إشارة إلى ضرورة التزام هذه الدول برفض التهجير، وهي رسالة إيجابية من القسام لهذه الدول، وهي إشارة تذكير بأن غزة انتصرت ولم تهزم. تتجلى الثقة بالنفس كرسائل واضحة من المقاومة الفلسطينية في الرموز المكتوبة والرسائل السياسية المختلفة.
تضمنت الرسائل ردًا غير مباشر على تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن تهجير سكان غزة، إضافة إلى ارتباطها ببادرة حسن النية التي طالب بها القسام. كما أن فيها رسائل للجمهور الإسرائيلي في ذات السياق لا سيما مع ازدياد الضخ الإعلامي والنشوة الإسرائيلية في موضوع التهجير.
- الرموز الصوتية (Auditory Signs)
الموسيقى الحماسية والصوت: تميز الفيديو بإيقاعات قوية مع الطبول والموسيقى المؤثرة التي تعزز الشعور بالفخر والانتصار، وكانت عملية التسليم على وقع أنشودة “احنا زحف الكتائب”. كما يعكس صوت تكبير الجمهور التفاف الناس حول المقاومة وهي رسالة متكررة في جميع عمليات التسليم أن الشارع ملتف حول مقاومته.
كما تحدث الأسرى الإسرائليين على المنصة باللغة العبرية ووجهو رسائل لحكومتهم، وفي ذلك أسلوب مكرر وضاغط تستخدمه القسام لاستمرار وقف إطلاق النار ومراحل الصفقة المتبقية، ولإثارة عائلات الأسرى والشارع الإسرائيلي لممارسة الضغط، لا سيما وأن الرقابة الإعلامية صارمة على صوت الأسرى بعد تحررهم.
- التأطير الإعلامي (Media Representation)
- زوايا التصوير والإخراج
تم استخدام زوايا تصوير تركز على وجوه الأسرى ومشاعرهم، إلى جانب استعراض القوة العسكرية لمقاتلي القسام، مما يخلق توازنًا بين الإنسانية والهيبة العسكرية. كما اعتمدت الإضاءة على الإضاءة الطبيعية، مع ألوان ترابية تعكس بيئة غزة وتضفي واقعية على المشاهد.
- اللقطات القريبة: استخدمت لإبراز مشاعر الأسرى والمقاتلين، مما يعزز التأثير العاطفي، خاصة عند إظهار الابتسامات أو التفاعل مع آسريهم. حيث ظهرت تفاصيل وجوه الأسرى والمقاتلين، مما يعزز التأثير العاطفي، وتُبرز هذه اللقطات مشاعر الأسرى، من الشوق والعجلة ولركوب سيارات الصليب بالإضافة الى حالة الثقة بين افراد وحدة الظل والاسرى، وهو ما يُستخدم كأداة ضغط نفسي على الجمهور المستهدف، خصوصًا في إسرائيل.
- اللقطات الواسعة: تُظهر المشهد العام، سواءً أثناء تسليم الأسرى أو وجود سيارات الصليب الأحمر، مما يعكس قوة الترتيبات الأمنية وحجم الجماهير الداعمة للمقاومة.
تعتمد القسام في كثير من الأحيان على اللقطات الواسعة لاستعراض المشهد العام، سواءً أثناء تسليم الأسرى أو إظهار سيارات الصليب الأحمر. تُستخدم هذه الزوايا لإبراز عدد المقاتلين، قوة الترتيبات الأمنية، وإحكام السيطرة على الحدث، بالإضافة الى تبيان الاعداد الكبيرة من الجماهير ومدى التفافها حول المقاومة.
- زوايا التصوير المائلة: في بعض المشاهد، تم استخدام زوايا تصوير مائلة لمنح إحساس بعدم الاستقرار أو التوتر، خاصة عند نقل الأسرى أو إظهار المعدات العسكرية التي تم الاستيلاء عليها. هذه التقنية تُستخدم في السينما لخلق جو مشحون بالتوتر وعدم اليقين وتساهم في التأثير على المشاهد من العسكريين وافراد جيش الاحتلال لخلق خوف في دواخلهم.
- الكاميرا المحمولة باليد: عند تصوير اللحظات التي يتم فيها نقل الأسرى، أستخدمت الكاميرا المحمولة باليد لمنح المشهد طابعًا وثائقيًا، مما يعزز الإحساس بالحقيقة والواقعية.
كما أن مشهد صعود الأسرى على المنصة وتحريكهم لأخذ صور واضحة لهم تعطي دلالات على الترتيب والتنظيم المسبق وعدم الارتجال في تنظيم المشهد الإعلامي المصاحب لتسليم الأسرى. كما يلاحظ وجود أكثر من كاميرا ومصور من أفراد القسام وسرعة نشر المادة المصورة بعد عملية مونتاجها مؤشر آخر على العمل المنظم.
ملاحظة : من خلال استخدام هذه التقنيات السينمائية، تخلق فيديوهات القسام تأثيرًا بصريًا ونفسيًا قويًا، حيث تجمع بين الواقعية الوثائقية والتأثير الدرامي، مما يجعلها أدوات إعلامية فعالة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.
خلاصة
يكشف التحليل السيميائي لفيديو “كتائب القسام تسلم الدفعة السادسة من المحتجزين الإسرائيليين في غزة“ عن استخدام مدروس لمجموعة من الرموز البصرية، واللغوية، والصوتية التي تحمل رسائل سياسية وعسكرية واضحة. فمن خلال اللباس، حرصت كتائب القسام على التمييز بين الأسرى العسكريين والمدنيين، مع إبراز التنظيم العسكري لمقاتليها. كما أن حركات الجسد عكست الثقة والانضباط لدى القسام، في مقابل الهدوء والتطمين الذي بدا على الأسرى، مما يعزز فكرة سيطرة المقاومة الكاملة على الموقف.
أما على المستوى المكاني، فقد تم اختيار مواقع ذات رمزية عالية، تعكس واقع الحرب والتحديات التي تواجهها غزة، بينما أظهرت اللافتات والرسائل المكتوبة مواقف سياسية واضحة، خصوصًا فيما يتعلق برفض التهجير وحقوق الفلسطينيين. ومن الناحية الصوتية، ساهمت الموسيقى الحماسية في تعزيز الشعور بالنصر، بينما كان للصمت الاستراتيجي دور في إبراز اللحظات المؤثرة.
فيما يتعلق بالتأطير الإعلامي، اعتمد الفيديو على تقنيات تصوير وإخراج احترافية، مثل زوايا التصوير المتنوعة، واللقطات القريبة لإبراز المشاعر، واللقطات الواسعة لإظهار السيطرة الميدانية، إضافة إلى استخدام الكاميرا المحمولة باليد لإضفاء الواقعية.
بشكل عام، يظهر هذا الفيديو كأداة إعلامية قوية، تجمع بين التأثير النفسي، البصري، والسياسي، مما يعزز رواية المقاومة ويحقق أهدافها في تشكيل الرأي العام محليًا ودوليًا، ودلالة على فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه بالقضاء عليها.


