إعداد: مركز مقاربة للدراسات الإعلامية والاستشارية
لتحميل التقرير من هنا
مقدمة
تعكس اهتمامات الجمهور في المحافظات الفلسطينية ملامح الواقع اليومي وتعقيداته، وتُبرز طبيعة الأولويات التي تشغل الناس في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متغيرة. هذه الاهتمامات، بما تحمله من تنوع بين القضايا الاجتماعية والخدمية والاقتصادية والسياسية والثقافية، تشكّل خريطة حيّة لنبض الشارع الفلسطيني، وتكشف عن وعي جماعي يتجاوز حدود المناطق والانقسامات. فمن القلق على السلامة العامة، إلى التفاعل مع قضايا العدالة والحرية، ومن هموم المعيشة اليومية إلى قضايا الكرامة الوطنية، تتجلى ملامح مجتمع يقظ، ومتضامن، يتفاعل مع ذاته، ويحاول بإصرار أن يحافظ على إنسانيته وكرامته في وجه التحديات المتراكمة.
يهدف هذا التقرير الأسبوعي إلى فهم القضايا التي أثارت اهتمام الفلسطينيين، وتحليل مدى التفاعل معها وتأثيرها على الرأي العام.
اهتمامات الجمهور
تكشف اهتمامات الناس في المحافظات الفلسطينية عبر المنصات الرقمية عن شبكة معقدة من التفاعل المجتمعي تُبرز أولويات الناس وتطلعاتهم، ويُظهر وعيًا جماعيًا يتجاوز الانشغالات الفردية أو المناطقية، فيما ينحصر في أبعاد أخرى وفقا للمناطقية. ويمكن تصنيف هذه الاهتمامات وفق القضايا الآتي:
القضايا الاجتماعية
تمثل القضايا الاجتماعية الاهتمام الأبرز والأكثر انتشارًا عبر مختلف المحافظات، وتشمل التعازي بالوفيات المفاجئة مثل :وفاة الطلبة أو الشباب العاملين، والتي تحرك مشاعر تضامن كبيرة، وتشير إلى الروابط المجتمعية القوية. والتضامن الاجتماعي مع ضحايا حوادث السير والعمل، حيث تعكس قلقًا حقيقيًا على السلامة العامة وتدني شروط الأمان في الشوارع ومواقع العمل. والعنف الأسري والنزاعات المجتمعية والعشائرية، والتي تحظى بتفاعل واسع، وتشير إلى الحاجة الملحة إلى إصلاح اجتماعي وتدخلات مجتمعية فاعلة.
تُظهر هذه القضايا حسًا مجتمعيًا عاليًا، وتكشف عن مجتمع يراقب ذاته ويتعاطف مع أفراده.
القضايا الخدمية
كانت القضايا الخدمية محط اهتمام كبير في عدة محافظات، حيث يبرز تفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية، ومن أبرز مظاهرها التفاعل مع أزمات البنية التحتية مثل مشاكل معبر الكرامة أو إزالة البسطات، والتي تعكس رغبة الناس في تحسين جودة الحياة والخدمات العامة. فضلا عن خدمات التعليم والنقل والكهرباء، والتي تشير إلى وعي مدني متزايد بأهمية الخدمات وتفاعل نقدي مع أداء المؤسسات.
هذه التفاعلات تعكس حسًا مدنيًا لدى الناس، واستعدادًا للتعبير عن مطالبهم بطريقة علنية.
القضايا الاقتصادية
تنوع الاهتمام الاقتصادي بين عدة موضوعات اقتصادية أثارت الجمهور كان أبرزها ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، والذي يعبّر عن تضرر فئات واسعة من المجتمع بسبب التقلبات الاقتصادية. فضلا عن خسائر المزارعين أو الحرفيين التي تعكس ارتباط الناس بالاقتصاد المحلي والقلق على استمراريته بهذه الحالة. كما برز موضوع البطالة ومصير العمال العاطلين عن العمل في ظل التهديدات الإسرائيلية بعدم السماح لهم بالعمل في الأراضي المحتلة عام 48.
القضايا الأمنية والحقوقية
برز في القضايا الأمنية الحملات الأمنية التي تنفذها السلطة الفلسطينية، مثل الحملة على المركبات غير القانونية، وفي القضايا القانونية حظي الإفراج عن الأسير أحمد مناصرة بتفاعل واسع عابر للمحافظات قبيل وبعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال، كما برزت بعض الموضوعات المرتبطة بحقوق العمال وحرية التعبير، وكان أهمها استدعاء د. عبد السلام معلا في نابلس.
القضايا الثقافية والرياضية
برزت اهتمامات الناس في القضايا الثقافية والزراعية في بعض المحافظات مثل الزعتر وأنواعه أو الطيور المهاجرة. كما لوحظ الاهتمام بـرموز النجاح المحلي كرياضيين المنتدبين للعب في فرق عربية بعد توقيع اللاعب محمد جعافرة عقدًا مع نادٍ ليبي، ما يعكس تقديرًا جماهيريًا للإنجاز المحلي.
رغم وجود اهتمام مشترك بالقضايا الاجتماعية والحقوقية، إلا أن كل محافظة تميزت بتركيز خاص، حيث نابلس كان مزج بين القضايا الأمنية والتعليمية والحراك المدني، فيما الخليل كان تفاعل مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية والفنية، وفي جنين جاءت أولوية للقضايا الأمنية وحقوق النازحين. وفي سلفيت تركيز على الزراعة، والحوادث، وقضايا الأطفال. وفي رام الله برزت قضايا الأسرى والحرية وحقوق الإنسان، أما في القدس فكان مزيج من قضايا الأمن، والحكومة، والبنية التحتية.
تُظهر الاهتمامات المجتمعية في المحافظات الفلسطينية وعيًا جمعيًا يتجاوز الانقسامات المناطقية والسياسية. واهتمامًا كبيرًا بالأمان الشخصي، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. وتطورًا في الوعي المدني والنقدي، مع قدرة على التعبير عن الرأي والمطالبة بالإصلاح. فضلا عن وجود ترابطًا اجتماعيًا لافتًا يعكس مجتمعًا حيًا، يقظًا، ومتضامنًا.
الاهتمامات السياسية
تتضمن تفاعلات الجمهور عبر المنصات الرقمية اهتمامات مشتركة بين المحافظات بالموضوعات السياسية التالية:
- العدوان على قطاع غزة
يشكل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة بؤرة التفاعل السياسي في معظم المحافظات، حيث عبّر المواطنون عن غضبهم وحزنهم حيال المجازر، مثل مجزرة دار الأرقم ومجزرة خيمة الصحفيين.
كما تظهر دعوات الإضراب والتضامن الشعبي كتعبير جماعي عن الرفض للعدوان، مع تفاوت الآراء حول جدواها.
- التصعيد الإسرائيلي في الضفة والقدس
شكلت قضايا الاقتحامات والهدم، مثل هدم منازل في ترقوميا والاقتحامات في مخيم جنين خاصة اقتحام الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي للمدينة، اهتماما مشتركًا بين العديد من المحافظات، كما لاقت الاعتداءات على النساء والأطفال تعاطفًا واسعًا، مثل استشهاد عمر ربيع، واعتقال ميسون مشارقة، كما لوحظ اهتمام باشتباكات المقاومين مع الاحتلال في مدن الضفة الغربية.
- التفاعل مع المواقف الدولية
كان لتصريحات دولية مثل مواقف ماكرون وزيارة نتنياهو للبيت الأبيض، ومقترح السلام المصري حضور واسع، حيث انتقدت المحافظات ازدواجية المعايير وتواطؤ بعض القوى الدولية.
- الاعتداءات على الصحفيين والطواقم الإنسانية
أحدثت حادثة استشهاد الصحفيين أحمد منصور وإسلام مقداد، وحرق الاحتلال خيمة الصحفيين في غزة، صدمة واسعة في الشارع الفلسطيني، لما فيها من استهداف مباشر للحقيقة ونقل الواقع، ما انعكس على حجم التفاعل الكبير مع الحادثة.
- قضايا الأسرى والمعتقلين
أثارت الاعتداءات على الأسرى، مثل الاعتداء على الشيخ الأسير محمد النتشة ونقله للمستشفى، وتصريحات الناطق باسم القسام أبو عبيدة حول الأسرى، تفاعلًا موحدًا يعكس رمزية قضية الأسرى كجزء أساسي من الهوية الوطنية الفلسطينية. علما أن قضية الأسرى بات التفاعل معها مرتبط بحالات إنسانية وليس على عموم الاهتمام بها كقضية.
- انتقاد السلطة وتراخيها
ظهر في معظم المحافظات انتقادات للسلطة الفلسطينية، سواء في موقفها من العدوان، أو عدم فعاليتها في الرد السياسي أو الشعبي، ما يعكس أزمة ثقة متزايدة بين الشارع والقيادة، خاصة فيما يتعلق بخطاب الرئيس عباس ورد الناطق باسم الرئاسة على تصريحات مصطفى البرغوثي التي هاجم فيها الإمارات، حيث قوبلت تصريحات أبور ردينة بنقد لاذع.
تعكس الاهتمامات السياسية المشتركة بين المحافظات الفلسطينية وحدة وطنية وجدانية وشعبية تتجاوز الجغرافيا والانقسام السياسي. وهذه القضايا، خاصة المتعلقة بالاحتلال، والعدوان على غزة، وهدم المنازل، تحوّلت إلى رموز مشتركة للغضب والمقاومة. وفي الوقت ذاته، يشير تكرار الانتقاد للسلطة وضعف الرد الدولي إلى حالة احتقان شعبية قابلة للتصاعد إن استمرت الانتهاكات دون ردود فعل حقيقية.
ضعف التفاعل
شهدت العديد من القضايا المهمة ضعفًا ملحوظًا في التفاعل الشعبي، رغم أهميتها وتأثيرها المباشر على الواقع الفلسطيني. من أبرز هذه الموضوعات: استمرار العمليات العسكرية في مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية مثل جنين وطولكرم، وحملات الاعتقال اليومية، خاصة في أماكن مثل مخيم الفوار ومدينة القدس. كما لوحظ تراجع التفاعل مع قضايا هدم المنازل، مثل ما جرى في الخضر ويطا، إلى جانب ضعف الاستجابة لقضايا إنسانية بارزة، كأوضاع الجرحى في غزة والنازحين في مراكز الإيواء. كذلك، برز الفتور تجاه قضايا تتعلق بالتوسع الاستيطاني، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، والمواقف السياسية المرتبطة بالمفاوضات أو التصريحات الرسمية. هذا الضعف في التفاعل لم يكن محصورًا بمنطقة معينة، بل شمل معظم المحافظات وعكس حالة عامة من التشبع والإرهاق الجماهيري، كما أن التفاعل مع بعض القضايا المستمرة قد يرتبط بحدث ما ثم يتراجع التفاعل بعد زوال الحدث.
يُظهر المشهد العام في مختلف المحافظات الفلسطينية تراجعًا ملحوظًا في مستوى التفاعل الشعبي والإعلامي مع قضايا ذات أهمية، على الرغم من استمرار تأثيرها المباشر على الواقع السياسي والإنساني. وهذا الضعف يعود إلى مجموعة من العوامل المتشابكة التي أفرزت حالة من الإحباط واللامبالاة، يمكن تلخيصها كالتالي:
- التشبع والتكرار الإعلامي
غالبية الموضوعات التي لم تلقَ تفاعلًا قويًا ترتبط بأحداث متكررة مثل: اعتقالات، واقتحامات، وهدم منازل، وعمليات عسكرية. هذا التكرار اليومي يولد ما يُعرف بـ”التشبع الإعلامي”، حيث يفقد الجمهور قدرته على التفاعل مع الخبر نتيجة اعتياده عليه، فيتحول الحدث الاستثنائي إلى مشهد مألوف لا يحرّك مشاعر أو استجابات واضحة.
- الإرهاق العام
يتزامن التكرار مع حالة من الإرهاق العام لدى الجمهور، ناتجة عن الضغط اليومي والمعيشي والنفسي بسبب استمرار العدوان، والحصار، وتدهور الأوضاع في قطاع غزة والضفة الغربية. هذا الإرهاق يحدّ من قدرة الجمهور على المتابعة أو التفاعل، ويولد حالة من الانفصال العاطفي والتبلّد الشعوري.
- غياب الأثر العملي أو النتيجة الملموسة
كثير من القضايا المطروحة تُعرض وتُعاد دون أن يُلمس لها نتائج أو تغييرات حقيقية على الأرض، ما يعزز شعورًا عامًا بعدم الجدوى، لذا لم يعد الجمهور يرى تفاعلَه مؤثرًا، مما يدفعه إلى الانسحاب والتقوقع داخل أولوياته اليومية.
- تفاوت التغطية الإعلامية
لوحظ أن بعض القضايا لم تحظَ بتغطية إعلامية وافية أو مؤثرة، أو تم تقديمها بشكل روتيني أو ناقل للمعلومة فقط دون تحليل أو تسليط ضوء إنساني عليها، وضعف التغطية – سواء من حيث المضمون أو الأسلوب – يلعب دورًا محوريًا في ضعف التفاعل الجماهيري.
- الأولويات المحلية مقابل القضايا العامة
يعود تفاوت الاهتمام بالقضايا أيضًا إلى تمركز أولويات المواطنين حول مشكلاتهم المحلية المباشرة. فكل محافظة أو منطقة تميل للتفاعل مع الأحداث التي تمسها بشكل مباشر، في حين يُسجَّل فتور في الاستجابة لقضايا تحدث خارج نطاقها الجغرافي، حتى لو كانت مؤثرة وواسعة النطاق.
- تراجع الثقة في الفاعلين السياسيين
ضعف التفاعل ارتبط أحيانًا بالتصريحات السياسية أو المبادرات الرسمية، ما يعكس فقدانًا عامًا للثقة لدى الجمهور تجاه بعض الأطراف السياسية أو المؤسسات، سواء المحلية أو العربية، خاصة في ظل الإخفاق المتكرر بتحقيق أي إنجاز ملموس على الأرض.
يتطلب إعادة إحياء التفاعل تجديد أساليب الطرح الإعلامي، والتركيز على البعد الإنساني، وربط القضايا بتأثيراتها المباشرة، إلى جانب العمل على خلق مساحات أمل وتغيير حقيقي على الأرض.
إن الضعف في التفاعل مع القضايا المختلفة ليس مؤشرًا على عدم الوعي أو تجاهل جماهيري، بل هو نتيجة طبيعية لحالة مركبة من الإرهاق، والتشبع، والإحباط، وتغير الأولويات، وكلها نتاج لواقع سياسي وأمني متأزم ومستمر. فيما يتطلب إعادة إحياء التفاعل تجديد أساليب الطرح الإعلامي، والتركيز على البعد الإنساني، وربط القضايا بتأثيراتها المباشرة، إلى جانب العمل على خلق مساحات أمل وتغيير حقيقي على الأرض.
الخاتمة
إن تتبّع اهتمامات الجمهور في المحافظات الفلسطينية عبر المنصات الرقمية يكشف عن مشهد اجتماعي متنوع، يتقاطع فيه الوعي المدني مع الانشغال اليومي، وتتداخل فيه القضايا الكبرى مع التفاصيل المحلية. ورغم مظاهر الإحباط وضعف التفاعل في بعض المحطات، إلا أن حضور قضايا معينة بحدة وانتظام يثبت أن الجمهور لا يزال متيقظًا، ويملك حسًا نقديًا وقدرة على التعبير، وإن بصور متباينة. إن هذه المنصات، بما تحمله من طاقة تفاعلية، تمثل فرصة لإعادة توجيه الخطاب العام، وتجديد أدوات التأثير، شريطة أن يُستثمر هذا التفاعل في إحداث أثر واقعي ملموس، يستجيب لحاجات الناس ويعزز من حضورهم في صنع القرار ورسم ملامح المستقبل.
- اعتمدت القراءة على رصد اهتمامات الجمهور عبر المنصات الرقمية خلال أسبوع كامل، في عدد من المحافظات الفلسطينية كعينة وهي: نابلس ورام الله والقدس والخليل وسلفيت وطولكرم وجنين، بحيث تمثل محافظات من الوسط والشمال والجنوب، كما اعتمدت على متابعة ورصد يومي لاهتمامات الناس وتفاعلاتهم .


