قراءة في تفاعلات الفلسطينيين عبر المنصات الرقمية مع بعض الأحداث الوطنية والسياسية الجارية

إعداد: مركز مقاربة للدراسات الإعلامية والاستشارية

لتحميل التقرير هنا

مقدمة

يشهد التفاعل الشعبي الفلسطيني مع قضاياه الوطنية تراجعًا ملحوظًا مع استمرار الحرب على غزة وتصاعد الأحداث والتهجير والانتهاكات في الضفة الغربية، وهو تراجع لا يمكن رده إلى اللامبالاة أو ضعف الانتماء، بقدر ما هو نتاج حالة مركبة من الإنهاك النفسي، والتشبع الإعلامي، والتراجع في جدوى الفعل الجماهيري، فضلا عن سياسة الاحتلال في إشغال الناس في هموم مباشرة لصرف اهتماماتهم عن القضايا الأكبر. فقد باتت مشاهد القمع والعدوان التي كانت تستفز وجدان الشارع، تمر مرور الكرام، دون ردود فعل ترقى لحجم ما ينشر عن الجرائم المروعة، ما يعكس تحوّلات عميقة في المزاج العام والبنية النفسية والسياسية للجمهور. في هذا السياق، يصبح من الضروري فهم هذا التراجع وأسبابه وكيفية معالجته إعلاميا.

 

أحداث تراجع التفاعل معها

يكشف تراجع التفاعل الشعبي الفلسطيني مع قضايا وطنية عن حالة مركبة ومعقدة من اللامبالاة والانكفاء، تتداخل فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والمناطقية أو الجغرافية.

أبرز  الموضوعات التي تراجع اهتمام الفلسطينيين بها:

  1. الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة مثل: الاقتحامات، والاعتقالات، والهدم، والعمليات العسكرية في الضفة، واقتحام الأقصى، والاعتداء على الحرم الإبراهيمي. ويرجع ذلك إلى أن هذه الأحداث باتت جزءًا من “المشهد اليومي”، ونتيجة لتكرارها فقدت تأثيرها العاطفي.
  2. العدوان على غزة والكوارث الإنسانية، مثل: المجاعة، والقصف، ومراكز الإيواء، وأزمة الجرحى. ويرجع ذلك إلى أن التفاعل صار مؤقتًا ومربوطًا بحدث أو قصة إنسانية محددة، وتراجع بفعل الانشغال المحلي وإشغال الناس بأحداث قريبة منهم تركز فيها اهتمامهم.
  3. قضايا الأسرى ومعاناتهم تراجعت في سلم الأولويات، خاصة في ظل عدم وجود حراك سياسي جاد يوظفها، أو نتائج عملية تدفع الناس للاهتمام بها.
  4. الاستيطان وضم الأراضي رغم خطورتها الاستراتيجية، إلا أن ضعف الربط بينها وبين حياة الناس اليومية جعلها غير ذات أهمية، فضلا عن عدم اهتمام الجمهور بالأحداث المرتبطة في مناطق أو محافظات بعيدة عنهم، ما يؤشر إلى إنكفاء على الذات في الاهتمامات وفق البعد أو القرب الجغرافي.

 

العوامل البنيوية لضعف التفاعل

يرجع تراجع التفاعل مع الأحداث الجارية إلى عدة عوامل منها:

  1. الإرهاق النفسي الجماعي والتبلّد الوجداني وهو ناتج عن التعرض الطويل للمآسي دون انفراج، ما يؤدي إلى الشلل العاطفي و”تطبيع القهر”.
  2. التشبع الإخباري والتكرار ، حيث فقد الجمهور حساسية التفاعل مع القضايا المتكررة، فلم تعد تفاجئ أو تثير انفعالًا.
  3. التقسيم الجغرافي، فكل محافظة باتت غارقة في همومها، وهو فعل استطاع الاحتلال تثبيته عبر سلسلة الانتهاكات والاقتحمات اليومية لجميع المناطق الفلسطينية، ما جعل القضايا الوطنية المشتركة تبدو بعيدة وغير ذات صلة.
  4. فقدان الجدوى السياسية والشعور بعدم التأثير، فغياب النتائج والثمار لأي تحرك شعبي سابق جعل الجمهور يرى أن تفاعله لا يغيّر شيئًا.
  5. ضعف التغطية الإعلامية النوعية، فاعتماد الإعلام على نقل الخبر دون التأطير أو السرد الإنساني أدى إلى فقدان الجاذبية والتأثير.
  6. التفاوت الطبقي والمناطقي في الاهتمام، حيث تباين التفاعل مرتبط أيضًا بالخلفيات الاجتماعية والاقتصادية للجمهور، وما يلامس واقعه المباشر.
  7. الروتين الثابت في التغطية وعدم التنويع في الأساليب ووسائل عرض الأخبار والمستجدات.
  8. تغييب وسائل الإعلام الفاعلة كالجزيرة وملاحقة الصحفيين سواء من قبل الاحتلال أو السلطة الفلسطينية.

إن مرد هذا الضعف لا يرجع إلى اللامبالاة بقدر ما هو انسحاب دفاعي نفسي واجتماعي،
فالشعب لم يتوقف عن الإحساس، بل تم إنهاكه، وتراجعت قدرته على الاستجابة بفعل سياق طويل من الإحباط وانسداد الأفق. فضلا عن تراجع الهوية الجمعية لصالح هويات محلية أو مناطقية (إن صح التعبير)، وهو ما يخدم مشاريع تفتيت التضامن الوطني، ويضعف أي إمكانية لبناء رأي عام موحد.

كما أن تحول الإعلام إلى وسيط جامد بدل أن يكون فاعلًا تعبويًا، كان له أثر كبير في هذه الحالة،
فالإعلام فقد دوره التعبوي والتوعوي حين اكتفى بالنقل بدلاً من التفسير، وفشل في بناء سردية مقنعة ومؤثرة.

 

توصيات إعلامية عملية لإعادة إحياء التفاعل:

  1. تجديد لغة الخطاب الإعلامي وتبني مقاربة قصصية – وجدانية، وذلك بالتركيز على القصص الفردية، والحالات الشخصية، والسرديات الإنسانية.
  2. الربط بين القضايا الوطنية والحياة اليومية للمواطنين، مثلاً، كيف يؤثر الاستيطان على الزراعة، أو الاعتقال على الأسرة، أو العدوان على فرص التعليم والعمل.
  3. كسر الحواجز المناطقية عبر تغطيات موحّدة تربط الجمهور بالمصير المشترك، وذلك من خلال حملات تسلط الضوء على التشابه في المعاناة والمطالب في نابلس كما في رفح أو بيت لحم.
  4. تنويع الطرح الإعلامي بين الألم والأمل، فلا يكفي عرض المأساة، بل ينبغي أن يترافق ذلك مع قصص الصمود، والمبادرات الذاتية، والتعافي المجتمعي، ومن أبرز ما يؤكد نجاعة هذا الطرح التفاعل الكبير مع عمليات المقاومة .
  5. إشراك الفاعلين المحليين وتوسيع التغطية نحو الهامش، لتقريب الإعلام من الواقع المعيش، ومساعدة الناس على رؤية أنفسهم في القصة الوطنية.
  6. الانتقال من الخبر العابر إلى الحملات الموجهة، وذلك بالتركيز على قضايا معينة بتغطيات معمقة، ومتعددة الزوايا تُشرك الجمهور في الفهم والفعل.
  7. التوجيه المباشر وغير المباشر بالحث على التحرك والحشد الجماهيري نحو القضايا المهمة.

 

الخاتمة

إن تراجع التفاعل الفلسطيني مع القضايا الوطنية لا يعني تراجع الوعي، بل يعكس تحوّلات في أنماط الاستجابة بفعل الإرهاق، والتشبع، والشعور بالخذلان. ويُشكّل الإعلام حلقة مركزية في استعادة هذا التفاعل إذا ما غيّر أدواته، وانحاز للناس، ولامس واقعهم بلغة تشبههم، فبين تطبيع المأساة وضخامة المعاناة، تتآكل قدرة الناس على الانفعال، لأنهم أُنهكوا،لذا فإن تجديد الفعل الإعلامي، وكسر الانعزال المناطقي، وإعادة وصل القضايا الكبرى بتفاصيل الحياة اليومية، هي خطوات ضرورية لإعادة إحياء الحس الجمعي، وتحفيز رأي عام قادر على الفعل، لا مجرد الاستهلاك السلبي للحدث. فالرهان اليوم لم يعد على كثافة التغطية، بل على عمقها وجودتها، وعلى قدرتها على استعادة الإنسان في قلب القصة الوطنية.

 

  • اعتمدت القراءة التحليلة على منهجية علمية في رصد اهتمامات الجمهور عبر المنصات الرقمية خلال شهر آذار ونيسان 2024 ، في عدد من المحافظات الفلسطينية كعينة وهي: نابلس ورام الله والقدس والخليل وسلفيت وطولكرم وجنين، بحيث تمثل محافظات من الوسط والشمال والجنوب، كما اعتمدت على متابعة ورصد يومي لاهتمامات الناس وتفاعلاتهم .