اهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية: تصدّر القضايا الاجتماعية للتفاعل الرقمي، مقابل بروز الأمنية والاقتصادية والسياسية كمساحات لتفريغ الغضب الشعبي وتصاعد نقد السلطة

 

 

ملخص

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل اهتمامات الجمهور الفلسطيني كما تنعكس في تفاعلاتهم عبر المنصات الرقمية، من خلال تصنيف القضايا المتداولة وتتبع التفاعل معها. وقد شملت دراسة اهتمامات الجمهور في مختلف القضايا، مع تخصيص مساحة لتحليل ظاهرة ضعف التفاعل الجماهيري مع قضايا وطنية خلال الفترة من 9-16/5/2025.

أظهرت النتائج أن القضايا الحقوقية والاجتماعية تحظى بأعلى نسب التفاعل، خصوصًا حين ترتبط بانتهاكات فردية أو أزمات أسرية، مقابل ضعف أو فتور في التفاعل مع بعض القضايا المرتبطة بانتهاكات الاحتلال. كما بيّنت النتائج أن الحوادث الفردية والصادمة مثل القتل والانتحار تستقطب تفاعلًا واسعًا، غالبًا بسبب طابعها المثير، في حين يطغى الطابع الانفعالي اللحظي على مجمل التفاعلات الرقمية كالحوادث المفاجئة. توصي الدراسة بضرورة تعزيز الخطاب الرقمي الموحد، وربط القضايا المحلية بالسياق الوطني العام، إلى جانب دعم المبادرات التي تدمج التفاعل الرقمي بالعمل المجتمعي، بما يعزز من تشكل رأي عام أكثر وعيًا وتماسكًا.

 

تمهيد

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة الفلسطينية، تمثّل وسائل التواصل الاجتماعي مرآةً لنبض الشارع الفلسطيني وتفاعلاته اليومية مع مختلف القضايا، حيث أضحت هذه المنصات مجالًا عامًا يعكس توجهات الجمهور وانفعالاته، ويكشف عن موازين الاهتمام وأولوياته تجاه القضايا الحقوقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، والسياسية. ومن خلال تتبّع هذه التفاعلات، يمكن تفكيك بنية المزاج الجمعي الفلسطيني، واستقراء دلالات التفاعلات الشعبية في البيئة الرقمية، ومدى حضور القضايا في الوعي العام.

تقدم هذه الدراسة قراءة تحليلية معمقة لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر رصد أنماط التفاعل في سياقات متعددة، بهدف فهم التداخلات بين القضايا المختلفة، وكشف الآليات التي تحكم مستويات الانخراط أو الانكفاء الشعبي تجاه الأحداث الكبرى والتفاصيل اليومية على حد سواء.

اعتمدت الدراسة الوصفية على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية، وذلك خلال فترة زمنية امتدت لأسبوع كامل. تم اختيار عينة مكوّنة من ست محافظات فلسطينية تمثل التوزيع الجغرافي للمجتمع الفلسطيني (الوسط، والشمال، والجنوب)، وهي: رام الله، ونابلس، والقدس، والخليل،و سلفيت، وبيت لحم. كما تم اعتماد الرصد اليومي المنتظم لتفاعلات المستخدمين مع الموضوعات والقضايا المتداولة على المنصات الرقمية، من خلال متابعة عدد من الصفحات والمنصات الأكثر تأثيرًا ونشاطًا في كل محافظة، والتي تم اختيارها بناءً على حضورها المجتمعي وتفاعل الجمهور معها، ورصد القضايا والموضوعات الأكثر تفاعلا من قبل الجمهور.

اهتمامات الجمهور في القضايا المختلفة

تعكس اهتمامات الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي انطباعات وتوجهات الجمهور الفلسطيني حول مختلف القضايا التي تشغله، ويمكن تصنيف هذه القضايا وفق الآتي:

القضايا الحقوقية

برزت القضية الحقوقية عبر تداول واسع لفيلم وثائقي يكشف اسم الجندي الإسرائيلي الذي قتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، ويعلن مقتله لاحقًا في عملية للمقاومة عبر تفجير عبوة ناسفة في جنين. أعاد الفيلم إحياء ملف اغتيالها، وطرح تساؤلات حادة حول العدالة والمحاسبة، حيث مثّل رمزًا للمظلومية الفلسطينية وضرورة مواصلة المطالبة بالحقوق.

القضايا الاجتماعية

برز الطابع الاجتماعي على العديد من القضايا التي تفاعل معها الجمهور، خصوصًا حالات التعازي بالوفيات، والتي شملت شخصيات متنوعة في مختلف المحافظات، وعكس التفاعل عمق الروابط الاجتماعية والتضامن المجتمعي في لحظات الحزن. كما برزت حالات تفاعل أخرى مثل وفاة بعض الشباب ومواساة آخرين بمرضهم، فضلا عن التضامن مع اختفاء فتى من مدينة يطا.

القضايا الاقتصادية

تعددت الموضوعات الاقتصادية التي أثارت ردود فعل قوية، ومنها ضبط مصنع يزوّر مواد تنظيف بخلط مسحوق الغسيل بالملح في دورا، ما تسبب بصدمة واسعة في مختلف المحافظات. كما أثار الارتفاع الحاد في أسعار الأضاحي واللحوم موجة من الاستياء والغضب، وظهرت دعوات جادة لمقاطعة الشراء بسبب الغلاء غير المبرر. وأدى قرار الملاحم بوقف الذبح احتجاجًا على الأسعار إلى تصاعد النقاش العام حول المعيشة المتدهورة، في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة تُفاقم معاناة المواطنين.

القضايا الأمنية

برزت موضوعات أمنية متنوعة شغلت الرأي العام، من بينها حادثا اغتيال السلطة الفلسطينية الشاب رامي زهران في مخيم الفارعة، والمسن أبو خليل سباعنة في جنين، اللذان تركا أثرًا كبيرًا رغم محدودية التفاعل العلني بسبب الحساسيات السياسية. إضافة إلى ذلك، أثار مقتل الشاب محمد حسان في قلقيلية قلقًا شعبيًا متزايدًا من ظاهرة السلاح المنفلت، وتكرار حوادث إطلاق النار، بينما هزت حادثة وفاة الشاب أحمد نافز مشنوقًا في رام الله ومحيطها المجتمع، لما فيها من غموض وألم. كذلك، وقع حادث في مدرسة بشعفاط تمثل في اعتداء أولياء أمور على معلم وقطع يده ببلطة، ما فجر موجة من الغضب الشعبي والدعوات لحماية الكوادر التعليمية. كما تفاعل الجمهور مع ضبط الأجهزة الأمنية صفقة تسريب أراضٍ في أم الصفا لصالح جهات يهودية، كما استنكر المواطنون اعتقال شرطة الاحتلال لعريس في العيزرية أثناء زفافه بسبب إطلاق النار في العرس، ما أثار جدلًا حول العادات الاجتماعية والأمن. وترك

قضايا الحوادث

شهدت قضايا الحوادث حضورًا قويًا في اهتمام الجمهور، حيث تنوعت بين حوادث سير قاتلة مثل حادث جناتا ووفاة الشاب عامر الشرباتي، وحوادث منزلية مثل انفجار فرن غاز أودى بحياة أم أيهم الزغل في شويكة طولكرم، إلى جانب حوادث عمل مثل سقوط عامل في ورشة بناء في حيفا. كما لفتت الانتباه حوادث اصطدام منها تعرض مراسل تلفزيون فلسطين لحادث مباشر أثناء التغطية، واصطدام طفل يقود دراجة بسيارة، إلى جانب اندلاع حرائق مثل حريق الحي الشمالي بسلفيت. هذه الحوادث أثارت موجات قلق واسعة، ونقاشًا مجتمعيًا حول غياب إجراءات السلامة والرقابة، ولامست واقعًا يوميًا محفوفًا بالخطر في بيئات متعددة.

 

القضايا العامة

تناول الجمهور باهتمام موضوعات عامة بعضها متعلقة بقيود السفر، حيث أثار القرار التركي بتشديد شروط التأشيرات للفلسطينيين موجة قلق، خاصة بين الراغبين في الدراسة أو العلاج أو العمل في تركيا. ودار نقاش واسع حول حرية التنقل، والعدالة في المعاملة، والبدائل الممكنة، ما جعل من هذه المسألة قضية عامة تمسّ فئات واسعة، وتشير إلى تعقيدات الواقع السياسي والجغرافي للفلسطينيين في الخارج.

القضايا الطبية

ظهرت قضايا طبية أثارت تعاطفًا شعبيًا معها، منها إصابة طفل من نابلس باختراق ثلاث حديدية لقدمه نتيجة سقوطه ، ما ولّد صدمة إنسانية عامة، إضافة إلى حالة الشاب أحمد بائع الذرة في سلفيت المصاب بمرض نادر، حيث تصاعدت المطالب بتوفير الدعم له، وسط تفاعل مجتمعي واسع. كما برزت إصابة الأستاذ محمد عرفات إبراهيم نتيجة الاعتداء عليه داخل المدرسة، ما فتح باب النقاش حول العنف في المؤسسات التعليمية.

 

دلالات وأبعاد للاهتمامات

يُظهر تحليل الاهتمامات المشتركة بين المحافظات الفلسطينية خريطة تعكس طبيعة التوجهات المجتمعية بما فيها من تداخلات متباينة  من دلالاتها:

  1. سلوك التضامن الاجتماعي والوجداني، فتكرار التفاعل مع الوفيات والتعازي يبرز وظيفة اجتماعية جماعية للتعبير عن الانتماء، واستمرار الشبكات الاجتماعية رغم الانقسامات، كما أنه في مجتمع مضغوط تحت الاحتلال، يصبح الموت والحزن لحظات توحيد وإفصاح عن الانتماء. ويكشف عن حاجة عميقة للتشبث بالهوية الجماعية والروابط المجتمعية في ظل واقع سياسي واجتماعي يتسم بالتفكك والتهميش.
  2. الإحساس المتزايد بالتهديد وانعدام الأمان، فتعدد القضايا الأمنية، من جرائم إلى اغتيالات، وقتل، يدل على شعور جمعي بالخطر، والانكشاف الأمني، يقابله بحث عن جهة “حامية” (السلطة، المقاومة، العائلة).
  3. تعبير عن مستوى اقتصادي خانق، فالتفاعل مع أسعار الأضاحي واللحوم يكشف عن احتقان اقتصادي واسع، وأحيانًا تعبيرًا عن فقدان الثقة بالتجار ومؤسسات الرقابة الرسمية، كما أن الدعوات للمقاطعة هي محاولات جماعية للتعبير عن الرفض والاحتجاج في ظل غياب أدوات ضغط مؤسساتية.
  4. مركزية الرموز الوطنية في ظل غياب العدالة، فعودة ملف شيرين أبو عاقلة بهذا الزخم تعني أن الجمهور لا ينسى رموزه، ولا يغفر للعدالة المفقودة، بل يسعى لإحيائها عند كل فرصة، وهذا يدل على احتفاظ الذاكرة الشعبية بحقها في السرد والحقيقة.
  5. الحوادث والمآسي اليومية كمرآة لمستوى البنية التحتية والخدمات، حيث الاهتمام الواسع بحوادث السير والانفجارات المنزلية يعكس قلقًا حقيقيًا من ضعف الخدمات، وقصور البنية التحتية، وانعدام الأمان المجتمعي، وهي قضايا تبدو “يومية”، لكنها تنطوي على دلالات عميقة تتعلق بالإهمال العام وفقدان الثقة بالمؤسسات.
  6. تداخل القضايا، حيث تُظهر القضايا المطروحة أن اهتمامات الجمهور الفلسطيني لا تُصنّف تصنيفًا جامدًا، بل تتقاطع بين الحقول الاجتماعية والحقوقية والأمنية والدينية والاقتصادية، وغالبًا ما تنطوي على أبعاد انفعالية وإنسانية قوية. فمثلاً، قضية اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة هي قضية حقوقية، لكنها حملت أيضًا بعدًا وطنيًا وعاطفيًا واضحًا؛ وقضايا الوفاة تحمل طابعًا اجتماعيًا، لكنها تتحول إلى لحظات جامعة تكشف بنية التكافل والانتماء.

اهتمامات الجمهور السياسية

تتضمن اهتمامات الجمهور وتفاعلاته مع عدد من الموضوعات السياسية دلالات وتوجهات عدة، أبرزها:

  1. المقاومة المسلحة وتكتيكاتها الميدانية

برز اهتمام واسع من الجمهور الفلسطيني بالعمليات النوعية التي نفذتها المقاومة، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، مثل تفجير العبوة التي أسفرت عن مقتل جنود إسرائيليين، أو الكمائن التي أودت بعدد منهم في حي الزيتون. كذلك حازت عملية سلفيت، واغتيال قادة ميدانيين في جنين، على تفاعل شعبي واسع. ما يلفت هنا أن هذه العمليات لم تعد تُقرأ بوصفها أحداثًا ميدانية فقط، بل كفعل سياسي يعيد تشكيل معادلة الردع مع الاحتلال. وينظر الجمهور إلى هذه الأفعال باعتبارها استعادة للكرامة الوطنية، كما يتعامل معها بوعي تكتيكي يقرأ الرسائل السياسية ضمن كل حدث. اللافت أن هذا الاهتمام لم يقتصر على سكان المناطق المعنية، بل بات وطنيًا جامعًا، يُعبّر عن تشكُّل حالة سياسية جماهيرية ترى في المقاومة المسلحة أداة للضغط السياسي أكثر منها مجرّد رد فعل.

  1. الانتهاكات الإسرائيلية المنهجية ضد المدنيين والبنية الإنسانية ومخاوف التهجير

أثارت الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، من قصف المستشفى الأوروبي إلى استشهاد الصحفي حسن اصليح، مرورًا بالاعتداءات المتكررة على المواطنين في الضفة، موجةً من التفاعل. كما أن الجمهور يُدرج هذه الجرائم ضمن مصطلحات “التطهير” و”الإبادة”، ويربطها بنموذج تاريخي للاستعمار الاستيطاني. اللافت أن هذه الانتهاكات تساهم في رفع منسوب الوعي الحقوقي بين فئات مختلفة من المجتمع، وتدفع إلى توسيع مفهوم النضال ليشمل الدفاع عن المؤسسات الطبية والتعليمية، وليس فقط الميدان العسكري.

  1. المفاوضات والصفقات السياسية

حظيت قضايا مثل تسليم الأسير عيدان ألكسندر، والمفاوضات الجارية بين حركة وأمريكا، باهتمام لافت من الجمهور. وتفاعل الناس مع هذه الموضوعات يتراوح بين الأمل الحذر والشك الصريح، حيث يطرح كثيرون تساؤلات حول جدوى هذه المفاوضات ومدى صدق الطرف الأمريكي والإسرائيلي، ويُقرأ أي تحرك سياسي في هذا الإطار باعتباره اختبارًا للنوايا: هل تمثل المفاوضات تكتيكًا لإعادة التموضع، أم بداية لانزلاق نحو تسويات قد تُفرغ المقاومة من مضمونها؟ كما يظهر من التفاعلات أن الجمهور لم يعد يتعامل مع المفاوضات بسطحية، بل يُناقش الشروط، والتوازنات، ودور الوسطاء، خصوصًا في ظل صعود الحديث عن ترتيبات جديدة.

  1. السياسات الدولية والإقليمية المرتبطة بفلسطين

أظهرت التفاعلات الشعبية اهتمامًا عاليًا بالتحركات الإقليمية والدولية، خاصة المتعلقة بالولايات المتحدة ودول الخليج. من زيارة ترامب إلى السعودية، إلى الطائرة القطرية الفاخرة التي وُصفت بأنها “رشوة سياسية”، وصولًا إلى فتور العلاقات بين ترامب ونتنياهو، كلها قضايا رُبطت تلقائيًا بتأثيرها المحتمل على الملف الفلسطيني. هذا يكشف عن وعي سياسي متقدّم لدى الجمهور، لا ينظر فقط إلى الداخل الفلسطيني بل يتابع بتركيز مسارات السياسة الإقليمية، كما أن التفاعل مع هذه القضايا غالبًا ما يأخذ طابعًا نقديًا وساخرًا، ويعكس خيبة الأمل من تواطؤ أنظمة عربية مع مشاريع إضعاف القضية، ويكرّس خطاب “الخذلان” الذي يُستخدم بوضوح في وصف المواقف الخليجية أو التغطية على الاحتلال تحت مسميات “الشراكات الاقتصادية”.

  1. الاعتقالات والاقتحامات اليومية

رغم أن الاعتقالات والاقتحامات المتكررة في الضفة الغربية أصبحت جزءًا يوميا من المشهد، إلا أن تفاعل الجمهور معها لا يزال يحتفظ ببعض الزخم، لا سيما حين ترتبط تلك الاقتحامات بأماكن رمزية مثل المسجد الأقصى أو بوقائع ميدانية تستدعي المواجهة. على سبيل المثال، تصدي حراس الأقصى لمحاولات تقديم “قربان الفصح” شكّل لحظة تفاعل قوية أعادت التأكيد على مركزية القدس في الوجدان السياسي الفلسطيني. كذلك، تثير عمليات الهدم، والمواجهات في مناطق مختلفة في الضفة، واعتقال الشبان مشاعر مختلطة من الغضب والعزيمة والتضامن. المهم هنا أن هذه الأحداث المتكررة يتركز الاهتمام معها في بعض الحالات التي ترتبط بشيء يفعل الحالة دون تعميم الاهتمام، فضلا عن تركز الاهتمام في كثير من الأحيان فيما يحدث في الجغرافيا القريبة دون غيرها.

 

يمكن القول إن المقاومة المسلحة عادت لتشكّل خيارًا شعبيًا مركزيًا، ليس بوصفها رد فعل على الاحتلال فقط، بل باعتبارها لغة السياسة الأوضح والأكثر فعالية في زمن تتآكل فيه أدوات التفاوض التقليدية. كذلك، تبيّن أن الحساسية العالية تجاه الانتهاكات الإسرائيلية لا تنبع فقط من مشاعر إنسانية، بل تُترجم إلى موقف سياسي يرفض التطبيع ويطالب بمحاسبة الاحتلال. ما يلفت أيضًا هو إدراك الجمهور المتزايد للسياسات الإقليمية والدولية وتأثيرها على القضية، حيث يقرأ الناس التحركات الخليجية والأمريكية ضمن خريطة التحالفات والاصطفافات، لا بوصفها أحداثًا معزولة.

كما أن الشكوك المتزايدة تجاه جدوى المفاوضات تعكس أزمة ثقة شعبية عميقة، باتت ترى أن المشاريع السياسية الخارجية غالبًا ما تأتي مفرغة من العدالة.

يتبيّن من هذا التحليل أن الجمهور الفلسطيني لا يتفاعل مع السياسة بوصفها شأنًا نخبويًا أو بعيدًا عن الواقع، بل يدمجها في تفاصيل الحياة اليومية والمواجهة الميدانية والرمزية على حد سواء، حيث إن الاهتمام السياسي لدى الفلسطينيين متعدد الأبعاد: من المقاومة إلى الحقوق، ومن الإقليمي إلى المحلي، ومن التحليل التكتيكي إلى قراءة التحولات البنيوية. كما أن هذا الاهتمام لا يقتصر على فئة عمرية أو منطقة جغرافية، بل ينتشر عرضيًا ويأخذ أشكالًا وجدانية وعقلانية في الوقت نفسه. إننا أمام جمهور سياسي، يراقب، ويحلل، ويشارك، ويُعيد إنتاج مواقفه من خلال تفاعله الدائم مع الأحداث.

 

الموضوعات السياسية الأبرز

التصنيف الموضوعات التفاعل والانفعال
المقاومة المسلحة الكمائن، الاغتيالات، إطلاق النار، تفجير العبوات فخر، اعتزاز، تضامن
الانتهاكات الإنسانية قصف مستشفيات، استشهاد صحفيين وأسرى صدمة، غضب، حزن
الاعتقالات والاقتحامات اقتحام المدن، حملات الاعتقال قلق، رفض، توتر
التحولات السياسية الخارجية علاقات ترامب-نتنياهو، قطر وترامب، التطبيع استياء، شك، نقد
المفاوضات والصفقات حماس-أمريكا، تسليم الأسرى تفاعل تحليلي، حذر، اهتمام

 

ضعف الاهتمامات والتفاعل

موضوعات ضعف التفاعل

شهدت العديد من الموضوعات والأحداث ضعفًا في التفاعل معها من الجمهور الفلسطيني، رغم أهميتها وخطورتها. من أبرز هذه الموضوعات استمرار عمليات الهدم، كما في مخيم نور شمس وبلدة سوبا، وكذلك، فإن اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة، رغم رمزيتها الدينية والوطنية، لم تعد تحظى بالزخم الجماهيري نفسه الذي حظيت فيه يوم تهريب مستوطن لقربان، نظرًا لتكرارها واعتياد الجمهور عليها. كما شهدت المجازر في قطاع غزة، مثل مجزرة مدرسة فاطمة في جباليا وخروج المستشفى الأوروبي عن الخدمة، تراجعًا في التفاعل، أضف إلى ذلك الاعتداءات المتكررة من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال، مثل حرق المنازل وتجريف الأراضي واعتقال المطاردين، فقد أصبحت أحداثًا يومية لا تُحدث صدمة أو تستفز الجمهور بالقدر نفسه. وتكرر ذلك مع الاعتداءات في مناطق في الضفة الغربية كمسافر يطا وسنجل وبرقة ونابلس. كما لوحظ ضعف التفاعل مع أخبار إطلاق صواريخ يمنية نحو تل أبيب والقدس.

واجهت الأحداث المرتبطة بالسلطة الفلسطينية، مثل اغتيالها الشاب رامي الزهران والمسن أبو خليل سباعنة، ترددًا واضحًا في التفاعل، نتيجة الحساسية السياسية والخوف من التعبير العلني عن المواقف. وامتد ضعف التفاعل أيضًا إلى ملفات حيوية مثل مشاريع التوسع الاستيطاني، والتي لم تُثر الاهتمام اللازم رغم خطورتها، بسبب تطبيعها كوقائع اعتيادية لا تغيّر الواقع.

 

أسباب ضعف التفاعل

تتعدد الأسباب التي أدت إلى ضعف التفاعل الجماهيري مع هذه الموضوعات، ويمكن تصنيفها ضمن الآتي:

أولًا، يأتي الاعتياد والتكرار كعامل رئيسي؛ فالجمهور بات يواجه تدفقًا يوميًا متكررًا من الأخبار المأساوية والانتهاكات، ما أدى إلى نوع من التبلد العاطفي والاعتياد على الألم، بحيث لم تعد الأحداث المأساوية تثير الانفعال كما في السابق، خاصة حين لا تحمل هذه الأحداث أي تغيير ملموس في النتائج أو تبعات سياسية حقيقية.

ثانيًا، يعاني الجمهور من الإرهاق نتيجة طول أمد العدوان على غزة وتكرار صور المجاعة والدمار، ما خلق نوعًا من الانسحاب النفسي المؤقت عن التفاعل. وهذا التبلد لا يعكس بالضرورة لامبالاة، بل هو أحيانًا آلية دفاعية في ظل العجز عن إحداث فرق فعلي.

ثالثًا، ساهم ضعف التغطية الإعلامية المحلية المؤثرة في تراجع التفاعل، إذ أصبحت كثير من الأخبار تُنشر دون سرد إنساني أو مرئي يلامس مشاعر الجمهور، ما قلل من فعاليتها. كما أن تعدد الأحداث وتزاحمها، خاصة في ظل تصاعد القصف على غزة، أدى إلى تشتيت الانتباه، وجعل بعض الأخبار، مهما كانت مؤلمة، تمرّ بصمت لأن الجمهور منشغل بأحداث أكثر دموية أو آنية.

رابعًا، ظهرت حواجز سياسية تحدّ من التفاعل، خصوصًا في الأحداث التي تمس السلطة الفلسطينية بشكل سلبي، حيث يخشى البعض من التعبير العلني أو يشعر بالانقسام السياسي كعائق للتفاعل. كما أن غياب الثقة في بعض المصادر (مثل الإعلام العبري) جعل الجمهور أكثر حذرًا في التفاعل مع بعض الأخبار الكبيرة لكنها غير المؤكدة.

أخيرًا، أدّى غياب الحملات المجتمعية الموحدة وآليات التعبئة الشعبية وعدم تقديم محتوى داخلي تعبوي مدروس إلى تراجع روح التضامن العام، خاصة حين لا تُربط القضايا بانعكاس مباشر على حياة الجمهور أو لا تتوفر منصات تنقل معاناة الناس بصيغ قريبة ومؤثرة، أو دافعة لهم نحو الفعل.

توصيات لوسائل الإعلام

في ضوء دراسة اهتمامات الجمهور وضعف اهتمامته تجاه مختلف الأحداث، نقدم في هذا التقرير توصيات لوسائل الإعلام لأخذها بعين الاعتبار:

  1. تجديد الخطاب الإعلامي: ينبغي على الإعلام أن يبتعد عن القوالب الجافة والتكرار في عرض الأخبار، من خلال تطوير المحتوى بصيغ تحليلية وإبداعية، واعتماد أساليب بصرية حديثة مثل الفيديوهات القصيرة، والرسوم التوضيحية، والبودكاست. هذا التجديد يسهم في الحفاظ على انتباه الجمهور وتجديد تفاعله مع القضايا المستهلكة.
  2. التركيز على القصص الإنسانية: فالقصص التي تروي معاناة الأفراد أو إنجازاتهم في سياق الحياة اليومية تُحدث أثرًا أقوى من الأخبار المجردة. وسرد التجارب الشخصية، سواء في الحروب أو الإنجازات، يُعزز الهوية الجمعية ويمنح القضايا بعدًا ملموسًا يتفاعل معه الناس بسهولة أكبر.
  3. تعزيز الإعلام التفاعلي والمجتمعي :الإعلام بحاجة إلى الخروج من الإطار النخبوي وفتح مساحات للناس للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم، سواء عبر برامج حوارية، وبودكاست، أو تغطيات ميدانية شعبية. وإشراك الجمهور في صياغة المحتوى يعزز المصداقية ويعيد بناء الثقة المفقودة بالمؤسسات الإعلامية.
  4. توسيع التغطية للقضايا المحلية والمهمّشة :القصص التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، كارتفاع الأسعار أو سوء الخدمات، هي الأكثر قدرة على تحفيز التفاعل الشعبي. لذلك، يُنصح بتكثيف التغطية لمناطق مهمشة وأحداث منسية، وتوثيق تأثير القضايا الكبرى على الأفراد داخل مجتمعاتهم.
  5. استخدام وسائط بصرية مؤثرة :تفاعل الجمهور يعتمد بدرجة كبيرة على قوة الصورة والفيديو. والمحتوى المرئي الميداني، مثل شهادات حية أو لقطات مؤثرة، يُحدث أثرًا تراكميًا ويمنح القصص حياة، بخاصة حين تكون الوسائط بجودة عالية وتروي قصة متكاملة تتجاوز النصوص المجردة.
  6. ربط القضايا بالأثر المباشر :إن تجنب تقديم الأخبار الخارجية أو الإقليمية كحقائق بعيدة، وربطها بأثرها الأمني أو الرمزي على حياة الفلسطينيين، قد يجعل الجمهور أكثر انخراطًا. كذلك، إبراز الشخصيات والرموز في القضايا يعيد تركيز الاهتمام ويُفعّل التفاعل الوجداني مع الحدث.
  7. التفاعل مع المزاج العام :ينبغي على الخطاب الإعلامي أن يكون مرنًا ويواكب المزاج الشعبي المتقلب، من دون الوقوع في التهويل أو الابتذال. واستخدام نبرة حماسية أو ساخرة بذكاء يمكن أن يرفع مستوى التفاعل، إلى جانب ضبط توقيتات النشر حسب السياقات الزمنية والاجتماعية.
  8. الإعلام التحليلي والتوثيقي :بدلاً من الاقتصار على اللحظة الخبرية، ينبغي للإعلام أن يركّز على تحليل الحدث وتوثيقه وربطه بسياقات معرفية وتاريخية. هذا النوع من الإعلام يُسهم في تعميق الفهم ويمنح المتلقّي شعورًا بالسيطرة والوعي بدل الاستهلاك السريع للمعلومات.
  9. دعم الوعي والانتماء :ينبغي أن يُسهم الإعلام في ترسيخ القيم، وإحياء الذاكرة الجمعية، وتعزيز الانتماء الوطني والاجتماعي. من خلال تغطية المبادرات الإيجابية، وتقديم نماذج النجاح والتكافل، يمكن للإعلام أن يعيد الثقة بقدرة المجتمع على التأثير والتغيير، ويقوّي مناعته النفسية تجاه الأزمات المتكررة.

الخاتمة

تكشف هذه الدراسة أن الجمهور الفلسطيني لا يتعامل مع القضايا بوصفها ملفات منفصلة، بل يدمج بينها ضمن شبكة من المعاني الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي تشكّل وعيه الجماعي. فالتفاعل مع الأحداث لا يُقاس فقط بحجم المشاركة، بل بدلالاته الرمزية وامتداداته الوجدانية. كما يتضح أن هناك قضايا مركزية تحظى بزخم واسع لما تحمله من أبعاد وطنية أو معيشية، بينما تواجه قضايا أخرى تراجعًا في التفاعل رغم أهميتها، نتيجة التكرار أو الحساسية أو الإرهاق الجمعي. ومن خلال تحليل هذا التفاعل المتفاوت، تتجلّى صورة جمهور واعٍ، وحساس، مُنهك اقتصاديا ومن ممارسات الاحتلال، لكنه يظل مرتبطا في قضاياه.