اهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية: تصدر المجازر في غزة اهتمام الجمهور وارتباطها بالصور الصادمة والقصص الفردية

إعداد: مركز مقاربة للدراسات الإعلامية والاستشارية

لقراءة الدراسة هنا

ملخص

تحظى المجازر في غزة باهتمام سياسي واسع بفضل الصور الصادمة والقصص الفردية، لكن التفاعل معها يظل مرتبطًا بلحظات إنسانية استثنائية لا بحالة متكررة. وفي الضفة الغربية، يرتبط التفاعل مع انتهاكات الاحتلال بالمكان أو الأحداث الصادمة، حيث تتفاعل كل محافظة مع الانتهاكات التي تقع فيها. وتزداد الاستجابة الشعبية عند وجود صور مؤثرة، أو تصاعد في الاستهداف، أو استمرارية العدوان، بينما يضعف التفاعل مع تكرار الأحداث أو تزاحمها مع وقائع أكثر درامية. وتشكل عمليات المقاومة لحظات أمل يتجدد فيها الالتفاف الوطني. أما المواقف الدولية، فتثير اهتمامًا متفاوتًا بين متفائل ومشكك.

 

تمهيد

في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، باتت منصات التواصل الاجتماعي نافذة رئيسية لرصد توجهات الجمهور، وانفعالاته، ومواقفه إزاء القضايا المتعددة التي تمس حياته اليومية والوجوديةK فقد تحوّلت هذه المنصات إلى ساحة للتعبير الجمعي تعكس حجم التفاعل الشعبي مع القضايا البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والدينية، والسياسية، بما تحمله من هموم متراكبة وحساسيات متجددة.

تقدم هذه الدراسة قراءة تحليلية معمقة لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر رصد أنماط التفاعل في سياقات متعددة، بهدف فهم التداخلات بين القضايا المختلفة، وكشف الآليات التي تحكم مستويات الانخراط أو الانكفاء الشعبي تجاه الأحداث الكبرى والتفاصيل اليومية على حد سواء، معتمدة على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية، وذلك خلال فترة زمنية امتدت لأسبوع كامل من 16 -22 أيار.*

اهتمامات الجمهور في القضايا المختلفة

تعكس اهتمامات الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي انطباعات وتوجهات الجمهور الفلسطيني حول مختلف القضايا التي تشغله، ويمكن تصنيف هذه القضايا وفق الآتي:

  1. القضايا البيئية والطقس

برز اهتمام الجمهور بموضوع ارتفاع درجات الحرارة على غير المعتاد في مثل هذا الوقت، لا سيما لما له من تأثير مضاعف على الناس في قطاع غزة في ظل النزوح وانعدام وسائل التكييف في أماكن الإيواء، ما جعل الأزمة المناخية تتقاطع مع الأبعاد الإنسانية. كما تفاعل الجمهور مع حادثة احتراق أشجار في قرية بتير ببيت لحم.

  1. القضايا الاقتصادية

تناولت التفاعلات الاقتصادية مواضيع متعددة منها: موضوع بيع مكنسة كهربائية بسعر مبالغ فيه (13 ألف شيكل) أثارت انتقادات ضد غياب الرقابة، إضافة إلى افتتاح شركة طيبة للإنارة في بديا، وموسم الفقوس في سلفيت الذي شهد مشاركة نسوية لافتة. كما حظي الانخفاض الطفيف في أسعار اللحوم، وعروض مطعم شعبي في كفر عقب، وإطلاق تطبيق سوق جرزيم، والعروض في معرض أبو غوش، باهتمام يعكس توق الناس لتخفيف أعبائهم المعيشية.

  1. القضايا الاجتماعية

سادت تعازي الوفيات التفاعلات الاجتماعية، مع تعاطف واسع لوفاة شخصيات في مختلف المحافظات. كما هزّ الشارع مشهد إلقاء شاب من الخليل على معبر  للاحتلال دون علاج بعد بتر قدمه خلال عمله في الداخل المحتل، ما أثار غضبًا جماعيا. وبرزت المناسبات الاجتماعية مثل جاهات الصلح والزفاف كرموز للتكافل والتماسك، كما تكررت مظاهر الحزن الجماعي لوفاة شباب معروفين ما يعكس عمق الحس الإنساني في المجتمع.

  1. القضايا الأمنية

تداول الجمهور وقائع أمنية أثارت الجدل، مثل القبض على شخص ادّعى زورًا تعرضه لسطو، ونشاط الشرطة لإزالة التعديات، كما تفاعل الناس مع حادثة تفحيط كادت تودي بحياة عائلة في الخليل، ورافقها دعوات لتشديد الأمن وضبط السيارات غير القانونية، ما يعكس توترًا متناميًا حول احترام القانون وحماية السلامة العامة.

  1. قضايا الحوادث

شهدت مواقع التواصل تداولًا واسعًا لحوادث العمل والمرور مثل: وفاة عامل خلال عمله في الداخل المحتل، وسقوط طالبة من السكن في بيت لحم، وحوادث أخرى في طولكرم والخليل، وكلها أثارت تعاطفًا وغضبًا شعبيًا، خصوصًا في الحوادث التي طالت أطفالًا أو اتسمت بالغموض أو القسوة.

  1. القضايا الدينية

لقيت مغادرة الحجاج الفلسطينيين إلى مكة تفاعلًا في بعض المحافظات، وسط مشاعر روحانية ودعوات للحج المبرور. كما أثار إعلان سيدة فرنسية إسلامها في الحرم الإبراهيمي موجة فخر ديني وروحي، خاصة لما يحمله من رمزية في مكان مقدس وتعبير عن تأثير الرسالة الإسلامية.

  1. القضايا الخدمية

سلّطت التفاعلات الضوء على افتتاح شوارع جديدة في بعض المناطق خاصة في محافظة الخليل، وسط تعليقات متباينة بين الإشادة بالإنجازات وانتقاد التقصير البلدي، ما يعكس اهتمامًا شعبيًا بالبنية التحتية وربطها بجودة الحياة.

 

دلالات وأبعاد للاهتمامات

يُظهر تحليل الاهتمامات المشتركة بين المحافظات الفلسطينية خريطة تعكس طبيعة التوجهات المجتمعية بما فيها من تداخلات متباينة:

  1. يُظهر التفاعل مع موجة الحر خاصة في قطاع غزة، كيف يتقاطع المناخي بالإنساني، مما يعكس وعيًا جماهيريًا بالعوامل المركبة التي تفاقم الأزمات، فلم يعد الناس الحرارة كظاهرة طبيعية فقط، بل كجزء من سياق معاناة أوسع.
  2. يعكس التفاعل مع الغلاء، والعروض، والخداع التجاري الحس الرقابي لدى الجمهور الذي يربط قضاياه اليومية بالشفافية الاقتصادية والعدالة. إلى جانب ذلك، يلاحظ تقدير المبادرات والمشاريع المحلية (مثل مطعم كفر عقب أو سوق جرزيم) باعتباراها جزءا من محاولة تخفيف الأعباء الاقتصادية مهما كانت رمزية، وحتى لو كانت تهدف للكسب المادي.
  3. تكرار التفاعل الكثيف مع التعازي بالوفيات يدل على عمق البعد الجماعي في الثقافة الفلسطينية، حيث يتحول الحزن إلى لحظة تكافل اجتماعي وشعور بالمصير المشترك، خاصة في الحالات التي تمس الشباب أو الشخصيات المعروفة، كما أن التفاعل مع هذه القضايا لا يترتب عليه أي مخاوف خاصة في ظل ملاحقة المحتوى المعبر عن الرأي السياسي.
  4. تشير ردود الأفعال المتباينة تجاه نشاط الشرطة إلى توجهات مختلفة، ففي وقت ينشد النظام، يشعر الناس أن سلوكيات الأمن يأتي على حساب الفقراء وأرزاقهم، وهو ما يكشف هشاشة الثقة بالمؤسسات الأمنية.
  5. يعكس حجم التفاعل مع حوادث العمل والسير، خاصة تلك التي تطال العمال والأطفال، شعورًا عامًا بالخطر الذي يهدد الفئات الهشة، ويجعل كل حادث يُقرأ كعلامة على فشل في حماية المواطن.
  6. يكشف التفاعل مع القضايا الدينية مثل الحج وإسلام السيدة الفرنسية عن حاجة روحية ورمزية يعوّل عليها الناس وسط الواقع الضاغط، وهو ما يبرز دور الدين كمصدر للتماسك والأمل لا مجرد طقوس.

تكشف هذه الاهتمامات عن مجتمع فلسطيني شديد الحساسية لقضاياه اليومية والمعيشية، يتفاعل بعاطفة جماعية مع المآسي، وينشد التكافل والتضامن في وجه الأزمات. وتبرز العدالة الاجتماعية، وحماية الكرامة، والأمن الاقتصادي كعناصر مركزية في خطاب الجمهور، كما يُلاحظ توتر دائم بين الثقة بالمؤسسات والانكفاء على التضامن الأهلي، ما يؤشر إلى فجوة في التمثيل والتلبية الرسمية، ويعكس هذا كله واقعا يشعر فيه الناس بثقل الأعباء وفقر البدائل.

اهتمامات الجمهور السياسية

تتضمن اهتمامات الجمهور وتفاعلاته مع عدد من الموضوعات السياسية دلالات وتوجهات عدة، أبرزها:

أولًا: مجازر غزة

شكّلت القضايا المتعلقة بالمجازر في قطاع غزة أعلى نقاط الاهتمام السياسي لدى الجمهور، وشهدت تفاعلًا واسعًا في معظم المحافظات، وهو ما يعكس الرمزية الوطنية والعاطفية العالية، حيث تُقرأ المجازر دائمًا كاستهداف جمعي للهوية الفلسطينية، وتستثير إحساسًا بالمظلومية التاريخية والمشتركة. كما أن قوة الصور والقصص الفردية: مثل استشهاد عائلات كاملة، أو قصة الطفل الذي يودّع أمه، أو فقدان المؤرخ السنوار تحوّل الأرقام إلى مأساة حية، وتزيد من حدة التفاعل الجماعي.

يعكس التفاعل التضامن والإحباط من غياب ردود فعل دولية فعّالة، ما يزيد من التماهي مع الضحايا، إلا أنه يلاحظ أيضا ضعف التفاعل في بعض الأحيان رغم هول الحدث، والذي يُعزى إلى الإرهاق والعجز الناتج عن تكرار المجازر، أو غياب التغطية المصورة القوية، كما حصل مع أخبار استشهاد العشرات دون تداول قصص إنسانية مؤثرة.

ثانيًا: انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربية

يلاحظ أن الاعتداءات اليومية للمستوطنين وجنود الاحتلال في الضفة الغربية شكّلت محورًا ثابتًا في اهتمامات الجمهور، لكنها لم تكتسب دومًا نفس الزخم أو المستوى من التفاعل. ويمكن ملاحظة أن تركيز التفاعل في المحافظات المتضررة مثل نابلس، وسلفيت، وبيت لحم، حيث يتكرر التفاعل مع أحداث مثل الهدم، واقتحام البلدات، ونصب الخيام، وحرق الأراضي. وهذا يدل على ارتباط مكاني مباشر يُحرّك التفاعل، والأدق أن كل محافظة تتفاعل مع الاعتداءات التي تمارس فيها.

كما يلاحظ من خلال الرصد أن عوامل تعزيز التفاعل تتمثل في وجود صور مؤثرة (كطفلة تُضرب من قبل المستوطنين أو شهيد صغير)، وتصاعد الاستهداف للبنية التحتية، واستمرارية الفعل العدواني لعدة أيام كما في بروقين وكفر ديك، فيما أن تكرار المشهد اليومي، أو تزامن الحدث مع أحداث أكثر درامية (مثل المجازر في غزة)، يدفع الجمهور لتغليب القضايا التي تُحدث صدمة أعلى.

 

ثالثًا: عمليات المقاومة

شكلت عمليات المقاومة، سواء في غزة أو الضفة (مثل عملية سلفيت)، لحظات يتجدد فيها الأمل الوطني ويظهر التفاعل الشعبي بشكل واضح، ويتضح مستوى التفاعل المرتفع خاصة عندما تُوصف العملية بأنها “محكمة” أو “ذكية”، أو تُفضي إلى قتل جنود إسرائيليين، وهو ما يولد شعورًا بـ”الرد” في مقابل المأساة، فضلا عن أن  الجمهور يتفاعل باعتزاز بهذه العمليات لأنها تُعيد توازن القوة رمزيًا، وتكسر الشعور بالعجز أمام المجازر وتشعره بالكرامة.

رابعًا: المواقف والتصريحات الدولية

لاقت المواقف الدولية، خصوصًا تلك التي تنتقد إسرائيل أو تدعو لوقف العدوان، اهتمامًا نسبيًا، ويلاحظ أن الناس تنقسم بين من يرى هذه المواقف بارقة أمل، ومن يشكك فيها بوصفها مجرد تصريحات إعلامية لا تُغيّر الواقع، ويلاحظ أن التفاعل كان أعلى في المدن ذات الطابع السياسي والإعلامي: مثل رام الله والقدس، حيث يتابع الجمهور التصريحات والمواقف العالمية بشكل أكبر.

كما حظيت بعض المواقف الدولية كتصويت البرلمان الإسباني أو وصف الإعلام الغربي لعدوان غزة بـ”التسونامي على إسرائيل” بتفاعل الجمهور، مما يعزز الإحساس بتحوّل المزاج الدولي.

ضعف الاهتمامات والتفاعل

موضوعات ضعف التفاعل

تشمل موضوعات ضعف التفاعل المشترك لدى الجمهور الفلسطيني عددًا من القضايا الجوهرية، أبرزها الانتهاكات المتكررة بحق المسجد الأقصى وساحاته، وعرقلة وصول المصلين، واقتحامات المستوطنين تحت غطاء السياحة، دون أن تُقابل بتفاعل جماهيري واسع أو موحد. كما يُسجَّل ضعف في التفاعل مع المجازر المتواصلة في قطاع غزة، بما في ذلك استهداف المستشفيات مثل المستشفى الأندونيسي، ووفاة المرضى جراء الحصار، والنزوح القسري في شمال القطاع وجنوبه، حيث بات التفاعل مرتبطا بقصص مؤثرة وليس بحالة عامة متكررة. وتبرز أيضًا قضايا الأسرى، مثل استشهاد أسرى من غزة داخل السجون، وتفشي الأمراض كالجرب، والتنكيل بهم، وهي قضايا لا تحظى بزخم شعبي يتناسب مع خطورتها. أما في الضفة الغربية، فتمرّ اعتداءات المستوطنين، وهدم المنازل والمنشآت الزراعية، والتنقيب عن الآثار في مناطق مثل نابلس وسلفيت ومراح رباح، بتفاعل محدود ومناطقي الطابع. كما لا تحظى عمليات المقاومة الفردية كالطعن أو إطلاق النار والتي لا ترتبط بما يميزها، إلا بتفاعل رمزي لا يعكس حجم التضحية، خلافا للعمليات المميزة كعملية سلفيت.

أسباب ضعف التفاعل

  1. التكرار والاعتياد، فتكرار الانتهاكات (مثل اقتحامات الأقصى) بشكل يومي أو أسبوعي أفقدها عنصر الصدمة، والاعتياد على مشاهد المجازر في غزة قلّل من حدة التفاعل.
  2. الإنهاك النفسي والعاطفي، فطول أمد العدوان على غزة وتراكم الأزمات أدى إلى تبلّد وجداني، وشعور بالعجز الجمعي أمام استمرار الكوارث دون نتائج.
  3. التشتت الجغرافي والإخباري حيث تزامن الأحداث في مناطق متعددة (الضفة، غزة، القدس) أربك الجمهور، وغياب تغطية إعلامية موحدة تبرز الترابط بين الأحداث ووحدة المصير هو المطلوب.
  4. ضعف التأثير المحلي والإحساس بأن التفاعل لا يغير شيئًا ميدانيًا، خاصة في قضايا القدس والأسرى، فضلا عن غياب الفعل الجماعي المنظم الذي يمنح التفاعل الرقمي فعالية أكبر.
  5. ضعف الرواية والتمثيل الإنساني وقلة القصص الشخصية المؤثرة والصور الصادمة التي تثير التعاطف الجماعي، فالأخبار تقدم بصيغة رقمية جافة (عدد شهداء، أسماء أسرى دون تفاصيل إنسانية).
  6. غياب الخطاب الإعلامي المحلي المؤثر والجهد الإعلامي الذي يربط كل حدث بسياق وجداني أو وطني مشترك، وضعف التغطية اليومية للملفات الحقوقية وقضايا السجون مقارنة بالمآسي الدموية.
  7. الانشغال بقضايا يوميةومعيشية، حيث الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في الضفة أثّرت في أولوية التفاعل السياسي أو الوطني.

توصيات لوسائل الإعلام

في ضوء دراسة اهتمامات الجمهور وضعف اهتمامته تجاه مختلف الأحداث، نقدم في هذا التقرير توصيات لوسائل الإعلام لأخذها بعين الاعتبار:

أولًا: تجديد الأسلوب والمحتوى

من الضروري كسر رتابة التكرار التي تُفقد القضايا زخمها، وذلك عبر تنويع أساليب الطرح مثل استخدام الفيديوهات المؤثرة، والصور القوية، والتقارير غير النمطية. ويُوصى بالانتقال من التغطيات التقريرية الجافة إلى السرديات الإنسانية التي تركز على القصص الشخصية بدل الأرقام. كما أن اعتماد لغة تعبّر عن المشاعر – كالحزن، والغضب، أو الأمل – يعيد الجمهور من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل. ويمكن أيضًا توظيف الفكاهة الذكية كأداة نقدية بناءة، خاصة عند مخاطبة فئة الشباب، دون الإخلال بسياق القضايا.

ثانيًا: تعزيز الربط بين المحلي والوطني

ينبغي أن يعمل الإعلام على إعادة وصل القضايا الوطنية الكبرى بواقع الناس اليومي، من خلال إبراز أثرها المباشر على حياتهم في المحافظات المختلفة، فتغطية اقتحامات الأقصى أو العدوان على غزة مثلًا، تكون أكثر تأثيرًا حين تُربط بتأثيرها على الناس في نابلس أو الخليل مثلا. كما يُنصح بكسر الانكفاء الجغرافي من خلال تقارير توضح أن ما يحدث في محافظة واحدة هو جزء من السياق الفلسطيني الأوسع، ما يعزز التفاعل الوطني الشامل.

 

ثالثًا: رفع الوعي والتحليل النقدي

يُعد تفسير ضعف التفاعل الجماهيري أداة مهمة لبناء وعي نقدي، يمكن للإعلام أن يتناول هذه الظاهرة بجرأة، من خلال تحليل أسبابها سواء كانت ناتجة عن الاعتياد أو فقدان الثقة أو ضعف القيادة الإعلامية. كذلك، فإن التغطيات التحليلية التي تُفسّر خلفيات الأحداث وتُفكّك أبعادها تساهم في تحفيز وعي جماعي أكثر عمقًا، وتعيد للقضايا أهميتها بعيدًا عن الأسلوب التقريري المجرد. كما يُوصى بكشف المفارقات السياسية والاجتماعية بأسلوب ساخر وتحليلي يُبقي الحس النقدي حيًا لدى الجمهور.

رابعًا: إشراك الجمهور بفعالية

لم يعد كافيًا أن يكون الجمهور متلقيًا صامتًا، بل يجب فتح المجال أمامه ليشارك في صناعة المحتوى والتفاعل معه، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إدراج استطلاعات الرأي، ومنشورات من صوت المواطن، أو رسائل وشهادات من الميدان. والتفاعل الرقمي النشط، والحوار المفتوح مع المتابعين، يعزز الشعور بالانتماء والمشاركة، ويُشرك الناس فعليًا في تشكيل السردية الإعلامية بدلاً من الاكتفاء بمشاهدتها، وهذه من أهم سمات المنصات الرقمية التفاعلية.

خامسًا: التركيز على البُعد الإنساني

تُظهر التجربة أن تقديم القضايا من خلال القصص الشخصية والشهادات الفردية يحقق تأثيرًا وجدانيًا أقوى من التغطيات العامة، وينبغي للإعلام التركيز على قصص الأمهات، والأطفال، والناجين، لا سيما في القضايا الحقوقية كالأسرى والاعتقالات، حيث تتحول الأرقام المجردة إلى معانٍ ملموسة. كذلك، فإن ربط القضايا السياسية بتفاصيل الحياة اليومية وكرامة الناس يُعيد لهذه القضايا معناها الحقيقي ويُنعش التفاعل العام حولها.

سادسًا: تعزيز الأمل والانتماء

رغم قسوة الواقع، من المهم إبراز قصص الأمل والمبادرات المجتمعية الناجحة، مثل حملات المقاطعة أو مبادرات تسهيل الزواج. هذا النوع من التغطية لا يخفف فقط من وطأة الأخبار المؤلمة، بل يبني مناعة وجدانية في المجتمع، فالموازنة بين التغطية المؤلمة والإنجازات تُعزز من قدرة الجمهور على التماسك، كما أن نشر رسائل الأمل من الأهالي أو مقابلات مع ناجين يُساعد في دعم الصمود النفسي والوجداني للجمهور.

سابعًا: التغطية العادلة والمتوازنة

غالبًا ما تتركز التغطيات الإعلامية في مناطق محددة، مما يُغفل قضايا في مناطق تعاني بصمت، لذا من المهم توسيع التغطية لتشمل المحافظات المهمشة والطبقات الاجتماعية غير الممثلة إعلاميًا، فالصحافة المجتمعية والتوثيق الميداني المستمر ضروريان لتغطية انتهاكات مستمرة في أماكن مغفلة إعلاميًا، وضمان تمثيل عادل لكافة المناطق والشرائح.

ثامنًا: المتابعة والتحسين المستمر

ينبغي للإعلام تطوير آلية رصد تفاعلي دوري، مثل بناء خريطة شهرية للتفاعل الجماهيري، لتحديد القضايا التي تثير الاهتمام وتلك التي تعاني من فتور، كما يُوصى بتحليل التعليقات العامة لفهم التحولات النفسية في المجتمع مثل التعب، واللامبالاة، ومقاومة المحتوى الاحتفائي والسطحي، خصوصًا في أوقات المجازر والانتهاكات، للحفاظ على مصداقية الإعلام وتماهيه مع مشاعر الناس.

الخاتمة

تُبرز هذه الدراسة ملامح مشهد معقّد لتفاعل الجمهور الفلسطيني مع قضاياه المتنوعة، ومشهد تتقاطع فيه الهموم اليومية بالرموز الوطنية، والوجدان الجمعي بالتعب الفردي، في ظل واقع سياسي ضاغط وحياة معيشية منهكة. لقد كشف التحليل عن مجتمع يتمتع بحساسية عالية تجاه الظلم والكرامة والأمان، يتفاعل بشغف مع الرموز الإنسانية والدينية، لكنه في الوقت نفسه يبدو مرهقًا، مشتتًا، وتائهًا بين الحزن والانكفاء. تتوزع طاقة التفاعل بين الانفعال العاطفي الآني والبحث عن الأمل والتمكين الرمزي، ويظل الخطاب الإعلامي عاملًا حاسمًا في تحفيز هذا التفاعل، لذا فإن مسؤولية الفاعلين والمؤسسات الإعلامية تكمن في تجديد أدوات السرد، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وربط المحلي بالوطني، والرقمي بالواقعي، بما يعيد للمواطن دوره الفاعل في تشكيل الوعي الجمعي والدفاع عن قضاياه. كما أن فهم خريطة الاهتمامات لا يُعد ترفًا بحثيًا، بل ضرورة لفهم المزاج العام، وبناء خطاب أكثر صدقًا وتماسكًا مع نبض الشارع الفلسطيني المتغيّر.

* اعتمدت هذه الدراسة الوصفية على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية، وذلك خلال فترة زمنية امتدت لأسبوع كامل. تم اختيار عينة مكوّنة من ست محافظات فلسطينية تمثل التوزيع الجغرافي للمجتمع الفلسطيني (الوسط، والشمال، والجنوب)، وهي: رام الله، ونابلس، والقدس، والخليل،وطولكرم وسلفيت، وبيت لحم. كما تم اعتماد الرصد اليومي المنتظم لتفاعلات المستخدمين مع الموضوعات والقضايا المتداولة على المنصات الرقمية، من خلال متابعة عدد من الصفحات والمنصات الأكثر تأثيرًا ونشاطًا في كل محافظة، والتي تم اختيارها بناءً على حضورها المجتمعي وتفاعل الجمهور معها، ورصد القضايا والموضوعات الأكثر تفاعلا من قبل الجمهور.