اهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية: عمليات المقاومة المصورة تسترد المعنويات في مواجهة القهر والعجز

مركز مقاربة للدراسات الإعلامية

لقراءة الدراسة من هنا

ملخص

أظهرت النتائج أن الجمهور الفلسطيني يتفاعل بشكل انتقائي مع القضايا العامة، حيث تصدرت القضايا الاقتصادية اهتمامه نظراً لثقل الأزمات المعيشية، تلتها القضايا الاجتماعية والإنسانية التي عكست حضورًا قويًا للروابط المجتمعية والتضامن كما في حالة تهاني حجاج بيت الله، فيما مثّلت القضايا الأمنية والسياسية مجالات للتوتر والانكشاف وغياب الثقة بالمؤسسات. كما كشفت الدراسة عن تفاوت جغرافي في التفاعل، وضعف الاستجابة لقضايا ذات طابع وطني عام، مقابل تفاعل أكبر مع القضايا الشخصية أو المحلية، خاصة تلك التي تحمل طابعًا بصريًا أو رمزيًا قويًا. وبرزت عمليات المقاومة الموثقة والنوعية كرمزية أمل عوضت حالة القهر والعجز الجماعي، حيث أعاد الاحتفاء الشعبي بها إنتاج سردية “المقاوم المنتصر”، ومنح الجمهور لحظة استرداد معنوية وسط سياق سياسي واجتماعي بالغ الصعوبة.

في هذه الدراسة تم اعتماد تحليل اهتمامات الجمهور الفلسطيني على المنصات الرقمية خلال الفترة من 30/5- 12/6/ 2025، لفهم أولوياتهم واهتمامتهم، وتحديد أسباب تفاوت التفاعل مع القضايا المختلفة. اعتمدت الدراسة على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية لدراسة أنماط التفاعل مع قضايا متنوعة (اجتماعية، وأمنية، ودينية، واقتصادية، وسياسية وغيرها) في عدة محافظات فلسطينية كعينة للدراسة.

توصي الدراسة بضرورة إعادة بناء الخطاب الإعلامي الفلسطيني ليكون أكثر اقترابًا من اهتمامات الناس اليومية وهمومهم الوجدانية، كما يُقترح تطوير أدوات الرصد والتحليل لفهم مزاج الجمهور وتفاعلاته، وربط القضايا الوطنية الكبرى بسياقات معيشية ملموسة تُعيد تفعيل الحس الجمعي.

 

تمهيد

في ظل تصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الأراضي الفلسطينية، تبرز منصات التواصل الاجتماعي كمرآة تعكس أولويات الناس، وتكشف عمق مشاعرهم، وتوجهاتهم، ووعيهم الجمعي، فلم تعد هذه المنصات مجرد ساحات للبوح أو التعبير الفردي، بل تحوّلت إلى حقل غني لفهم التفاعلات الشعبية، ورصد التحولات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الجمهور الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال والضغوط المعيشية.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أنماط اهتمام الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية، من خلال تتبع تفاعلاته مع قضايا مختلفة تشمل الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والخدمية، والدينية، والسياسية، بالإضافة إلى دراسة ظاهرة ضعف التفاعل مع بعض القضايا رغم حساسيتها. ويأتي هذا التحليل لفهم الخريطة التفاعلية والاجتماعية التي تحكم الجمهور الفلسطيني اليوم، وتقديم توصيات عملية للمؤسسات الإعلامية لفهم هذا المزاج العام والتفاعل معه بفاعلية.

اهتمامات الجمهور في القضايا المختلفة

تعكس اهتمامات الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي انطباعات وتوجهات الجمهور الفلسطيني حول مختلف القضايا التي تشغله، ويمكن تصنيف هذه القضايا وفق الآتي:

القضايا الاقتصادية

برز اهتمام واسع بالقضايا الاقتصادية لا سيما قبيل عيد الأضحى، حيث شكّل تأخر صرف رواتب الموظفين وارتفاع أسعار كسوة العيد واللحوم والخضار محور نقاش جماهيري، وعبّر المواطنون عن استيائهم من غياب الرقابة على الأسواق، مما فاقم الشعور بالضغط المعيشي. كما لقيت التنزيلات والعروض التجارية تفاعلًا في بعض المحافظات، باعتبارها متنفسًا اقتصاديًا للأسر محدودة الدخل. أما قرار الاحتلال وقف العلاقات المالية مع البنوك الفلسطينية فقد أثار قلقًا واسعًا، نتيجة تداعياته المحتملة على النظام المصرفي والرواتب، ما دفع بالبعض للدعوة لاستخدام عملات بديلة.

القضايا الاجتماعية

برزت أشكال التفاعل المجتمعي مع المواقف الإنسانية والمناسبات الاجتماعية مثل التهاني بعودة الحجاج، والتعازي بالوفيات مثل الشابة ماريا أبو رحال والضابط إبراهيم أبو عيشة، كما أثارت مواقف إنسانية مثل مسامحة والد الطفل يوسف جابر لمن تسبب بوفاته حالة من الإعجاب والتقدير. وقد شكّلت مشاهد تصوير طفل يقرأ القرآن في نابلس، تجليات للتمسّك بالقيم الدينية والعائلية. إضافة إلى ذلك، أثارت قضية الشابة غرام أبو زلطة، ضحية العنف الأسري والإكراه على الزواج، موجة غضب ودعوات للتغيير القانوني.

القضايا الأمنية

سجّلت قضايا الجرائم العائلية وجرائم القتل تفاعلاً كبيرًا، لاسيما في حادثة مقتل أم على يد ابنها في أم الفحم، والتي أحدثت صدمة ودفعت إلى نقاش موسّع حول العنف الأسري والصحة النفسية. كما أثار العثور على جثة شاب في مكب نفايات في بيت لحم ومقتل شابين في كفر قاسم تساؤلات حيال الانفلات الأمني، مع تصاعد المخاوف من التدهور المجتمعي. كما حظيت مبادرة الشرطة لإطلاق وحدات الإسناد والنجدة بتفاعل متباين، عكس أزمة ثقة بين المواطنين والأجهزة الرسمية. أما حادثة إنقاذ رجل وأطفاله من أفعى في بيت لحم فقد أظهرت جانبًا إيجابيًا من التفاعل مع الأجهزة الأمنية.

قضايا الحوادث

شكّلت حوادث السير والعمل مركزًا للاهتمام والقلق العام، خاصة مع وفاة أربعة شباب مقدسيين في يوم واحد، وحوادث متفرقة في واد النار والخليل ودار صلاح ببيت لحم. كما أثارت حادثة وفاة طفل ووالده غرقًا في اليامون تفاعلاً كبيراً، وحادثة إصابة حصان في بيت لحم، كلها أثارت مشاعر الحزن والتعاطف، وعبّرت عن القلق من غياب البنية التحتية الوقائية، وتجسّد هذه التفاعلات الحساسية الشعبية تجاه الفقد المفاجئ والضعف في بيئات السلامة العامة.

القضايا الخدمية والبيئية

تفاعل الجمهور مع حادثة انفجار نبع ماء صافية من منهل صرف صحي في شمال غزة، حيث تحوّلت إلى حدث إنساني يسلّط الضوء على أزمة المياه في القطاع. كما لقيت مواضيع الإخلاء القسري لعائلات من البلدة القديمة خلال عمليات الاحتلال اهتمامًا خاصًا، لما تحمله من أبعاد إنسانية تتعلّق بسلامة المدنيين.

 

 

القضايا الدينية

لاقت مناسبات التهاني بعودة الحجاج، ونشر صور وفيديوهات شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، تفاعلًا يعكس تمسّك المجتمع بالقيم الدينية، وتقديس الأماكن الدينية، وتؤكد هذه التفاعلات على أهمية المناسبات الدينية كحاضنة للتعبير عن الانتماء والتراحم الاجتماعي، خاصة في ظل الأزمات المتعددة التي تواجه الناس.

دلالات وأبعاد للاهتمامات

يُظهر تحليل الاهتمامات المجتمعية على منصات التواصل الاجتماعي خريطة مركبة من التفاعل الشعبي تعكس عمق الأزمات التي يعيشها الفلسطينيون وتنوع انشغالاتهم اليومية، حيث تتوزع هذه الاهتمامات بين ما هو معيشي وإنساني وأمني ورمزي، ومن أبرز الدلالات التي يمكن قرائتها:

أولًا: اشتداد الضغوط المعيشية وتحوّل الاقتصاد إلى بؤرة قلق يومي، حيث برزت القضايا الاقتصادية في صدارة المشهد الرقمي، خاصة قبيل اقتراب عيد الأضحى وتأخر صرف الرواتب، ما يدل على أزمة ثقة متفاقمة بين المواطن والمؤسسة الرسمية والتجار، ولم تكن التفاعلات تعبيرًا عن استياء فحسب، بل تحوّلت إلى مطالب جماهيرية عابرة للمحافظات، عبّر فيها المواطنون عن سخطهم من ضعف الرقابة على الأسواق وغلاء الأسعار. أما التفاعل مع قرار الاحتلال وقف العلاقات المالية مع البنوك، فقد كشف عن إدراك شعبي متزايد لربط وتحكم الاحتلال بالواقع الاقتصادي، وتنامي النقاش حول بدائل نقدية، بما يعكس وعيًا سياسيًا اقتصاديًا.

ثانيًا: التماسك الاجتماعي رغم هشاشة الواقع الاجتماعي، حيث عكست مشاهد التعزية والتضامن مع الوفيات، استمرار قوة النسيج الاجتماعي الذي يتجاوز الجغرافيا والمناطق. كما أن قصص المسامحة والرحمة، مثل موقف والد الطفل يوسف جابر، أعادت التأكيد على القيم الأصيلة التي تحكم المجتمع الفلسطيني رغم الأزمات، كما  يؤكد التفاعل الواسع مع مشاهد طفل يقرأ القرآن أو عودة الحجاج، أن المجتمع الفلسطيني رغم التهديدات، ما يزال يحتفظ بمرتكزاته والدينية كأساس للتماسك. هذه المشاعر الجمعية تحوّل المنصات الرقمية إلى فضاء مشترك يوازي الفضاءات الواقعية المغلقة.

ثالثًا: شعور عام بفقدان الأمان وتراجع الثقة بالمؤسسة الأمنية، حيث أثارت الجرائم العائلية وحوادث القتل، مثل مقتل أم على يد ابنها في أم الفحم، حالة من الهلع والنقاش حول الأمان الأسري، ما يعكس تآكلًا في منظومة الحماية الاجتماعية وغيابًا للدور الوقائي للمؤسسات المجتمعية في حفظ الأمن. كما أن التفاعل مع جثث ملقاة في مكبات نفايات أو إطلاق وحدات أمنية جديدة في بيت لحم ونابلس، بيّن فجوة ثقة واضحة بين المواطن والمؤسسة الأمنية، ولم تُقرأ هذه القضايا كمجرد حوادث، بل كعلامات على تدهور بنيوي في بيئة الأمان المجتمعي، وهو ما يعيد إنتاج النقاش حول دور السلطة، وأهمية إعادة بناء العقد الاجتماعي من جديد.

رابعًا: مركزية الدين كقيمة روحية ومصدر للتماسك وسط الانهيارات، حيث  لاقى نشر صور الحجاج بالديار الحجازية وشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى تفاعلًا واسعًا، أكد من جديد على مركزية الرموز الدينية والروحية في المخيال الجمعي الفلسطيني، وهذه المظاهر ليست مجرد احتفاء شعبي، بل تجسيد لرغبة جمعية في التشبث بالمقدسات كمساحات معنوية تعوّض الغياب السياسي والاقتصادي، واللافت أن هذه التفاعلات جاءت مترافقة مع أزمات ضاغطة، ما يشير إلى اعتماد المجتمع على الدين كعامل صمود، ويعيد التأكيد على أن الأزمات لا تُنتج فقط الغضب، بل أيضًا العودة إلى الجذور والرموز الجامعة.

اهتمامات الجمهور السياسية

تتضمن اهتمامات الجمهور وتفاعلاته مع عدد من الموضوعات السياسية دلالات وتوجهات عدة، أبرزها:
التضامن مع غزة، حيث لا تزال غزة المحور السياسي الأهم للجمهور الفلسطيني، خصوصًا مع تصاعد التقارير عن المجاعة في شمال القطاع، ووفاة الأطفال بسبب سوء التغذية، وهو ما أبرزته تقارير الأمم المتحدة  وأطباء بلا حدود، وقد تزايدت التفاعلات خاصةً مع قصص الأطفال مثل الطفلة التي أكلت العشب، ومشهد مؤلم لطفل يحاول التقاط فتات الطعام من بين رماد النيران أو عائلات استشهدت بالكامل، مما حفّز موجة تعاطف شعبية موحدة في مختلف المحافظات، تؤكد أن الألم الإنساني في غزة لا يزال العامل الأهم في تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني.

انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربية، والذي يشكل تهديدا وجوديا وحظي بتفاعل محلي مركّز، حيث شهدت مناطق الضفة تصاعدًا في الاقتحامات والاعتقالات الجماعية، وهدم المنازل، واللافت أن التفاعل يأخذ طابعًا محافظاتيًا، لكنه يُغذّي شعورًا مشتركًا بالغضب والتهديد، إذ تتحول هذه الانتهاكات إلى صورة عنيفة من التهجير القسري وفقدان السيطرة على الأرض، ويترجم هذا الغضب غالبًا بانتقادات مباشرة للسلطة الفلسطينية، والتي تُعتبر غائبة أو عاجزة عن صدّ هذه الهجمات، كما ظهر في محافظات مثل نابلس وبيت لحم.

تقدير أعمال المقاومة، سواء في غزة أو الضفة الغربية، حيث حازت على تفاعل واسع، خاصةً عندما تكون نتائجها واضحة، مثل مقتل جنود إسرائيليين في الشجاعية، أو تنفيذ كمائن فعالة، ويتم استقبال هذه العمليات كرمزية أمل تعوّض حالة القهر والعجز، كما يعيد الاحتفاء بهذه العمليات إنتاج سردية “المقاوم المنتصر”، ويمنح الجمهور لحظة استرداد معنوية وسط سياق صعب.

كما برز التفاعل مع عمليات المقاومة حين اقترنت بمشاهد مباشرة أو روايات درامية، بينما سُجّل فتور في التفاعل مع البيانات المجردة أو العمليات غير الموثّقة بصريًا، ما يعكس تغيرًا في المزاج العام الذي بات يشترط التأثير الميداني أو الرمزية العالية لتوليد التفاعل.

– مفاوضات وقف إطلاق النار والتي حظيت باهتمام الجمهور الذي تابع التصريحات المتضاربة حول مقترح “ويتكوف” بقدر من الحذر والتشكيك، وسط انقسام بين من يرى فيه بادرة أمل للخروج من الكارثة، ومن يعتبره محاولة للالتفاف على صمود غزة، ويعكس هذا الانقسام أزمة ثقة متنامية لدى الجمهور في المسارات السياسية، خصوصًا مع تكرار الفشل وتضارب الروايات.

الاستيطان والاعتداءات الاستيطانية، وبرز التفاعل مع أحداث مثل نشر خريطة تشير إلى 22 مستوطنة جديدة في الضفة وغور الأردن، وتكثيف الهجمات على القرى والمزارعين، وقد حمل التفاعل مع هذه الأخبار نبرة غضب وشعور متزايد بالعجز في ظل غياب الرد الرسمي الفاعل، ما أفضى إلى نوع من الاستسلام الصامت، غير أن التفاعل لم يعمم مع أي موضوع على مستوى المحافظات كلها بل اقتصر على مستوى المحافظة المتضررة من الاستيطان.

اقتحامات المسجد الأقصى ومحاولات فرض واقع تهويدي جديد، والذي شكل مصدر قلق شعبي، خاصة تلك الاقتحامات الكبيرة دون اليومية، إذ عبّرت ردود الفعل عن استياء بالغ من اتساع رقعة الاستفزازات، وسط الصمت الرسمي والدولي حيال هذه .

الغضب الشعبي من المواقف العربية والدولية، خاصة مع تداول مشاهد مأساوية عن مجاعة غزة أو قوافل التضامن الممنوعة، ما عزز مشاعر التخلي والخذلان لدى الفلسطينيين، وفاقم الإحساس بأن المجتمع الدولي يتجاهل الكارثة الإنسانية.

أخيرًا، حازت بعض التصريحات السياسية المستفزة، مثل تصريحات بن غفير أو تصريحات تطبيعية من قادة عرب، على تفاعل غاضب وساخر، إذ رأى فيها الجمهور تجاوزًا للخطوط الحمراء الوطنية والدينية، ما أعاد التذكير بتمسك الناس بثوابتهم رغم كل ما يمرون به من إنهاك وانقسام.

ضعف الاهتمامات والتفاعل

يُلاحظ أن أبرز الموضوعات التي شهدت ضعف تفاعل مشترك بين المحافظات تمثلت في مجازر غزة وحصارها الحاد، وعمليات المقاومة غير الموثقة مثل تفجير منازل في جنود الاحتلال، والتوسع الاستيطاني الواسع في الضفة الغربية، بالإضافة إلى انتهاكات المستوطنين كاقتحامات القرى وتجريف الأراضي، حيث اقتصر التفاعل على المنطقة المتضررة فقط وبصورة منفردة عن التفاعل مع سياق الموضوع العام. كما سُجل ضعف في التفاعل مع اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة وشبه اليومية واقتصر التفاعل مع أحداث محددة، وكذلك سجل ضعف التفاعل مع أوضاع الأسرى المرضى رغم حساسيتها.

أسباب ضعف التفاعل

  1. غياب التوثيق البصري، حيث إن كثيرا من الأحداث لم تُدعّم بصور أو فيديوهات مؤثرة تُحفّز التفاعل، وقد لوحظ ذلك مع بعض عمليات المقاومة في غزة.
  2. الرقابة والخوف من التفاعل السياسي، خاصة مع قضايا تمس السلطة الفلسطينية أو الأجهزة الأمنية.
  3. تشتت الاهتمام و تعدد الأحداث يوميًا في أكثر من محافظة يضعف تركيز الجمهور ويقلل من التفاعل مع كل حدث على حدة.
  4. انشغال الجمهور بالهمّ الشخصي والمعيشي يضعف قدرة الناس على التفاعل مع القضايا الوطنية المستمرة.
  5. البعد الجغرافي وضعف التغطية الإعلامية، فضعف تفاعل الجمهور مع القضايا التي تحدث خارج مناطقهم، إذ يغيب عنهم الشعور بالارتباط المباشر أو الإحساس بالحاجة الملحّة للتجاوب مع أحداث لا تمسّهم ميدانيًا أو وجدانيًا بشكل مباشر، كما أن ضعف التغطية الإعلامية في بعض الأحيان أو تجاهل بعض الأحداث يسهم في تقليل الوعي بها، مما يؤدي إلى غياب التجاوب الجماهيري معها.
  6. فقدان الأمل بالتأثير، والشعور بعدم وجود تأثير فعلي يكسر حالة السلب والإحباط، مما يجعلهم يتجنبون التفاعل لأنهم لا يرون نتيجة.

توصيات لوسائل الإعلام

في ضوء دراسة اهتمامات الجمهور وضعف اهتمامته تجاه مختلف الأحداث، نقدم في هذه الدراسة توصيات لوسائل الإعلام لأخذها بعين الاعتبار:

  1. تعزيز التوثيق البصري والدرامي للأحداث

أثبتت التفاعلات الرقمية أن الجمهور يتجاوب بصورة أكبر مع المحتوى المرئي الذي يلامس العاطفة، لا مع البيانات النصية المجردة، وضعف التفاعل مع بعض من العمليات النوعية للمقاومة أو الانتهاكات في الضفة يعود في جزء كبير منه إلى غياب الصورة المؤثرة أو الفيديو الحي. لذا على وسائل الإعلام أن تركز على تطوير أدواتها البصرية، من خلال مراسلين ميدانيين مزودين بوسائل توثيق سريعة، وإنتاج مواد قصيرة ودرامية توصل المشهد بأقصى درجة من الإنسانية، دون الوقوع في التهويل أو الاستغلال، فالبعد البصري لم يعد مكمّلاً، بل صار في قلب المعركة الإعلامية.

  1. كسر التكرار عبر سرديات متجددة

أمام حالة التبلّد الناتجة عن التكرار اليومي للأخبار السياسية والإنسانية، لا بد أن تبتعد وسائل الإعلام عن الصياغات المكرورة والعناوين الجاهزة. فحين تتكرر عبارات مثل “قصف مستشفى” أو “استشهاد عدد من المدنيين”، من دون ربطها بسياقات شخصية أو رمزية، يفقد الحدث صدمته وتأثيره، لذا من المهم أن تعتمد المؤسسات الإعلامية على سرديات مبتكرة تستخرج من كل حادثة رواية إنسانية فريدة؛ كشهادة طفل نجا من الغارة، أو يوميات امرأة في منزل مُحاصر، أو تفاصيل صغيرة تُعيد للخبر نبضه. هذه الطريقة لا تُجدد فقط شكل التفاعل، بل تخلق رابطة أعمق مع المتلقي.

  1. تسليط الضوء على الأثر الإنساني للقضايا السياسية

تبقى الموضوعات السياسية مهما كانت كبرى، بلا قيمة وجدانية لدى الجمهور إن لم تُروَ من خلال الإنسان، فلا يكفي أن نغطي “هدم منزل في بيتا”، بل يجب أن نروي ماذا تعني هذه الكارثة لعائلة فقدت مأواها، وكيف تغيّرت حياتهم، كيف ينام الأطفال على أنقاض غرفهم. هذا التحوّل من الحدث السياسي إلى معناه الإنساني يُعيد تشكيل العلاقة بين الجمهور والخبر، ويجعله يرى السياسة كمجال يتقاطع مع يومياته، لا كملف نخبوي أو خارج عن متناول التأثير.

  1. إعادة إحياء القضايا “المنهَكة” عبر زوايا جديدة

كثير من القضايا المحورية مثل الأسرى، أو اقتحامات الأقصى، أو اعتداءات المستوطنين، باتت تُقدَّم بنفس الزاوية التقليدية، ما جعل الجمهور يتعامل معها باعتبارها “أخبارًا متوقعة”، ولإعادة هذه القضايا إلى دائرة التفاعل، لا بد من إنتاج روايات جديدة عنها: من خلال تسليط الضوء على قصص فردية غير مألوفة، أو تحليل سياقات سياسية واجتماعية مغايرة، أو حتى تقديمها في أشكال إبداعية كالوثائقيات القصيرة أو الرسوم المتحركة، فالجمهور لا يُنكر أهمية هذه الملفات، لكنه يحتاج إلى مدخل جديد يجعله يعيد النظر إليها بعين طازجة.

  1. تحفيز الأمل مع فضح المأساة

الناس متعبة من الحزن، لكنها لا تحتمل الزيف، وعلى الإعلام أن يحافظ على توازنه بين نقل الواقع القاسي كما هو، وبين إبراز لحظات الصمود والإبداع والأمل؛ فالمقاومة ليست فقط إطلاق نار، بل أمّ تُنقذ أبناءها من تحت الركام، وشابّ يعيد بناء متجره رغم القصف، وعبر هذا التوازن، يمكن للإعلام أن يكون مساحة للتنفس والقدرة على الاستمرار، بدلًا من أن يكون مرآة دائمة للخراب.

  1. ضمان العدالة الجغرافية في التغطية الإعلامية

تُظهر المتابعات أن بعض المحافظات، خاصة المهمّشة منها، تحظى بتغطية أقل، مما يولّد شعورًا بالتجاهل أو التمييز. ومن واجب الإعلام أن يوزّع اهتمامه بعدالة، ويُبرز قصصًا من كل الجغرافيا الفلسطينية، بحيث يشعر كل مواطن أن صوته وصورته ووجعه يجد له مكانًا في الفضاء الإعلامي. العدالة الجغرافية ليست فقط أخلاقية، بل ضرورة لبناء حس جمعي وطني موحد.

  1. عمل منصات تفاعلية آمنة للتعبير الشعبي

يعيش جزء من الجمهور في حالة من الرقابة الذاتية أو الخوف من التفاعل السياسي، خاصة في ما يتعلق بانتقاد السلطة أو الملفات الأمنية، لذلك، من المهم أن تبادر المؤسسات الإعلامية إلى فتح مساحات آمنة ومسؤولة للتعبير الحر، سواء من خلال تعليقات محفوظة الخصوصية، أو جلسات حوارية افتراضية، أو حتى استطلاعات رأي مجهولة. هذه الخطوة ستعيد الحيوية إلى النقاش العام، وتشجّع الناس على استعادة دورهم الفاعل في تشكيل الرأي العام.

  1. الانتقال من نقل الحدث إلى تفسيره وتأطيره

نقل الخبر لم يعد كافيًا في ظل انفجار المعلومات على المنصات الرقمية، فالجمهور يحتاج إلى تفسير، وخلفيات، وتحليل يبني له فهمًا أعمق. لماذا تُطرح مبادرة هدنة؟ ما دلالات تصعيد معين؟ كيف يؤثر قرار سياسي على مستقبل اللاجئين؟ تقديم التحليل بلغة مبسطة، غير نخبويّة، تُمكّن الجمهور من إدراك مكانه في المشهد السياسي، وتخلق تفاعلًا نابعًا من الوعي لا فقط من العاطفة اللحظية.

  1. تصدير الرواية دوليا

تحظى القضية الفلسطينية بتعاطف عالمي متصاعد، لكنّ ضعف التواصل المهني مع الإعلام الدولي يُضعف القدرة على تحويل هذا التعاطف إلى ضغط سياسي، لذا على المؤسسات الإعلامية بترجمة القصص المحلية إلى لغات مختلفة، وتبني خطابات حقوقية وإنسانية تُناسب السياقات الغربية، وتوظيف الشخصيات المؤثرة عالميًا للترويج للرواية الفلسطينية، فالانفتاح على الإعلام الخارجي لم يعد خيارًا، بل ضرورة في معركة الصورة والرأي العام.

 

 

الخاتمة

تكشف هذه الدراسة عن خريطة تفاعلية مركبة تُظهر أولويات الجمهور الفلسطيني وانفعالاته تجاه القضايا المختلفة التي تطفو على سطح المشهد العام، ويتبيّن من خلال تحليل أنماط الاهتمام على منصات التواصل الاجتماعي أن الجمهور لا يتفاعل مع الأحداث باعتبارها وقائع معزولة، بل من خلال مرجعياته المعيشية، والانفعالية، والقيمية، والسياسية. فالقضايا الاقتصادية تصدرت التفاعل الشعبي، بما يعكس حجم الضغوط اليومية التي يعيشها المواطن، وتحوّل الاقتصاد إلى مركز قلق جماعي، يتداخل فيه العجز المؤسساتي مع الاحتلال.

في المقابل، شكّلت القضايا الاجتماعية والإنسانية مجالًا مهمًا لبروز التماسك المجتمعي، حيث أظهر الجمهور تفاعلاً عابرًا للجغرافيا مع مواقف الرحمة، والتعزية، والتهنئة، في تجلٍ لقيم التضامن والروابط العائلية والدينية، التي ما زالت تؤدي دورًا تعويضيًا في ظل تفكك المنظومات السياسية والأمنية. وهذا يشير إلى أن المجتمع الفلسطيني، رغم قسوته ظروفه، ما يزال يجد في شبكاته الوجدانية ملاذًا للصمود والتماسك.

كما عكست القضايا الأمنية وحوادث العنف حالة من القلق الجماعي والانكشاف الأمني، وبيّنت فجوة عميقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية، حيث لم تُقرأ الأحداث كجرائم معزولة، بل كعلامات على تآكل العقد الاجتماعي وضعف الحماية. بالمثل، برز التفاعل مع قضايا الحوادث باعتبارها صورًا مكثفة للفقد المفاجئ، ومؤشرًا على هشاشة البنى التحتية، وهو ما حفّز استجابات وجدانية تتجاوز الحدث إلى التشكيك في جاهزية النظام الخدمي.

أما القضايا السياسية، فقد حافظت على مركزيتها، خاصة عندما اتصلت مباشرة بالألم الإنساني، كما في حالة غزة، أو بالكرامة الوطنية، كما في الاقتحامات والاعتداءات الاستيطانية. ومع ذلك، لوحظ تفاوت في مستوى التفاعل، إذ انخفض في القضايا ذات الطابع المتكرر أو غير الموثقة بصريًا، ما يعكس تغيرًا في نمط الاستجابة الشعبية المشروطة بالتأثير البصري أو الرمزي. كما برزت فجوة في التفاعل بين المحافظات، ما أظهر أن بعض القضايا تفقد زخمها إذا لم تلامس جمهورًا واسعًا أو تُغطَّ إعلاميًا بشكل فعال.

أخيرًا، تؤكد هذه الدراسة أن التفاعل الشعبي مع القضايا المختلفة لا يُقاس فقط بكثافة التعليقات أو حجم المشاركات، بل بمقدار ما تعكسه من إدراك جمعي، وما تكشفه من أولويات وجدانية وقيمية. كما تُبرز الدراسة الحاجة إلى إعادة التفكير في الأدوات الإعلامية والسرديات المستخدمة، لتكون أكثر اتصالًا بالإنسان، وأكثر قدرة على تحويل الحدث إلى قصة تُحاكي الضمير العام، وتعيد إحياء الاهتمام بالقضايا الوطنية والاجتماعية في زمن الانقسام والتشظي.

 

* اعتمدت هذه الدراسة الوصفية على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية، وذلك خلال فترة زمنية امتدت لأسبوع كامل. تم اختيار عينة مكوّنة من ست محافظات فلسطينية تمثل التوزيع الجغرافي للمجتمع الفلسطيني (الوسط، والشمال، والجنوب)، وهي: رام الله، ونابلس، والقدس، والخليل،وطولكرم، وبيت لحم. كما تم اعتماد الرصد اليومي المنتظم لتفاعلات المستخدمين مع الموضوعات والقضايا المتداولة على المنصات الرقمية، من خلال متابعة عدد من الصفحات والمنصات الأكثر تأثيرًا ونشاطًا في كل محافظة، والتي تم اختيارها بناءً على حضورها المجتمعي وتفاعل الجمهور معها، ورصد القضايا والموضوعات الأكثر تفاعلا من قبل الجمهور.