إعداد مركز مقاربة للدراسات الإعلامية
لتحميل الملف من هنا
تمهيد
أثار البيان الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، والذي يُنسب إلى عدد من “مشايخ الخليل” ويقضي بدعوتهم إلى الانفصال عن السلطة الفلسطينية وتأسيس “إمارة الخليل” والانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، حالة واسعة من الصدمة والجدل في الأوساط الفلسطينية، فقد جاءت ردود الفعل الأولى من الجمهور مشوبة بالدهشة والرفض، حيث سارع العديد إلى تكذيب الخبر والتشكيك في صحته، معتبرين أنه افتراء على عائلة عريقة في الخليل، هي عائلة الجعبري.
مع مرور الوقت، وتزايد المؤشرات على صحة البيان، بدأ الرأي العام يتجه إلى توصيف المبادرة على أنها تصرف فردي لا يمثل موقف العائلة بأكملها. وفي هذا السياق، أصدرت عائلة الجعبري بياناً رسمياً استنكرت فيه ما جرى، وأكدت انتماءها الكامل إلى النسيج الوطني الفلسطيني ورفضها القاطع لأي مبادرات تمس وحدة الصف أو تنسجم مع مخططات الاحتلال.
يسعي هذا التقرير إلى تحليل توجهات الجمهور الفلسطيني من خلال تفاعله وتعليقاته عبر المنصات الرقمية.
المواقف الفلسطينية التي تم تداولها
على صعيد عائلة الجعبري، استنكر وجهاء العائلة فكرة إمارة الخليل انطلاقا من رفض الانقلاب على مكونات الحالة الفلسطينية، بما فيها السلطة ومنظمة التحرير والفصائل والعشائر، وأصدرت العائلة بيانًا قالت فيه إن وديع الجعبري”غير معروف لديها، ولا يسكن الخليل، ويحمل هوية إسرائيلية”، وأعلنت براءتها منه واستنكرت عمله باعتباره غير شرعي.

بيان عائلة الجعبري
وقال نافذ الجعبري عضو الهيئة الرئاسية العليا لشؤون العشائر في الضفة الغربية، وأحد ممثلي عائلة الجعبري إن الهدف من التصريحات التي نُشرت مؤخرًا، والتي تتحدث عن إقامة “إمارة” في الخليل، هو استهداف مباشر لعائلات الخليل وتشويه لصورتها الوطنية. كما علق الحقوقي ومؤسس تجمع شباب ضد الاستيطان عيسى عمرو بالقول إن “عائلات الخليل وعلى رأسها عائلة الجعبري لم تقدم أي مبادرة سياسية، ولا يوجد ما تسمى إمارة الخليل، والأسماء المذكورة ليسوا من سكان الخليل ولا يمثلون أحدا في المدينة أو المحافظة، وليس لهم أي وزن عشائري أو ديني أو اجتماعي في الخليل”.
يلاحظ أن شخصيات غير رسمية هي من تصدرت الرد على الموضوع، فيما غابت ردود فعل السلطة الفلسطينية والفصائل، حيث لم تصدر تصريحات رسمية مباشرة من حركة فتح وحماس ولا الفصائل الأخرى.
من جهة أخرى وعلى صعيد التغطية الإعلامية، فقد تركزت تغطية الموضوع على نشر تقرير “وول ستريت جورنال” وبيان عائلة الجعبري، وردود فعل أخرى من العائلة وشخصيات وطنية، كما أن الموضوع أخذ زخما على منصات التواصل الاجتماعي التي حظي الموضوع فيها بأهمية واضحة، خلافا للإعلام الرسمي والفصائلي الذي تعامل مع الموضوع باعتدال دون تضخيم أو أخذذذه إلى زوايا أخرى. وعلى الصعيد الميداني، فقد تم إحراق سيارة وديع الجعبري في العيسوية ولم تسجل أي مظاهر احتجاج بأشكال أخرى.
توجهات الجمهور في التعليقات
تحمل تعليقات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية على دعوة “الشيخ وديع الجعبري” للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام وإنشاء “إمارة مستقلة في الخليل” انفعالات كثيفة، وتعكس مشهدًا اجتماعيًا مركبًا يتقاطع فيه الوعي الوطني الجمعي مع الإرث التاريخي للخيانة والتجارب المريرة مع الاحتلال والسلطة الفلسطينية والعشائرية السياسية. وتتضمن هذه التعليقات التوجهات الآتية:
أولًا: الصدمة والرفض الواسع
يتجلى في التعليقات صدمة ورفض قاطع لفكرة “إمارة في الخليل” و”التطبيع مع إسرائيل”، بوصفها خيانة جماعية تستدعي نبذًا تامًا، أخلاقيًا وتاريخيًا ودينيًا. وقد تم تداول عبارات مثل: “الله يلعنك يا خاين”، “مصيرهم مزابل التاريخ”، “الخليل وعائلاتها أكبر من أي صعلوك”، “هدر دمه على المنابر هو أقل واجب”.
يلاحظ أن الجمهور اعتبر ذلك خيانة وطنية صريحة، وأبدى تخوفا من تكراراً نموذج روابط القرى التي استخدمها الاحتلال سابقاً لتقسيم المجتمع الفلسطيني، كما اعتبره تطبيعاً مغطى بثوب عشائري، وتواطؤاً مع الاحتلال، خاصة في ظل التوقيت الذي يتزامن مع حرب إبادة في غزة.
ثانيًا: الغضب وتاريخ “الجعبري”
عدد من التعليقات تستحضر مواقف سابقة لـ “وديع الجعبري”، وسمعته السيئة، للتأكيد على عدم تمثيله لمحيطه، وتحاول أن تعزله عن النَسب الرمزي لعائلته التي يُشاد بها في تعليقات أخرى (مثل: “آل الجعبري الكرام” و”نخوة وشهامة زلام”)، لذا فإن عددا كبيرا من المعلقين شكك في وطنية أمثال هؤلاء “الشيوخ”، واعتبرهم أدوات استخبارية تخدم أجندات الاحتلال، ووُصفوا بـ”المخاتير العملاء”، “الطابور الخامس”، و”جواسيس بثوب عشائري”، و اتُّهم بعضهم بتنسيق سابق مع الاحتلال، كالمشاركة في ولائم لضباط إسرائيليين سابقا.
ثالثًا: الخيانة والشخصيات العشائرية
يأتي هذا الموضوع في سياق متصل باستغلال الاحتلال لشخصيات أخرى كما حدث في قطاع غزة وتجنيد ياسر أبو شباب ومحاولات فاشلة لكسب بعض العشائر لضفه، ودفعها لبعضها لإثارة الفوضى، فضلا عن ما عرف في الثمانينات من روابط القرى والمخاتير، وهي ما انعكست على تعليقات الجمهور، حيث تربط عدد من التعليقات ما جرى بـ “روابط القرى” و”مخاتير التعاون”، مستحضرة التجارب السابقة لتعاون بعض وجهاء العشائر مع الاحتلال، كما في: “سبب بلاء فلسطين هم مشيخة الخليل(يقصد بهم المتورطون بالتعاون مع الاحتلال)”، “رئيس روابط القرى كان من الخليل”، “الخونة كانوا يُذبحون مثل الأضاحي”، وهنا يظهر وعي شعبي عميق بـ خطر العشائرية كأداة سياسية انفصالية عندما تكون خارج المشروع الوطني، وتحويلها إلى وكيل سلطوي استعماري.
رابعًا: الاحتقان ضد السلطة وتطبيعها
رغم أن الجدل منصب على وديع الجعبري، فإن كثيرًا من الغضب انصب على السلطة الفلسطينية نفسها، ويجري وضعها في كفّة واحدة مع الاحتلال والتطبيع: “شو افرقت السلطه؟ هم أيضا صهاينة فلسطين”، “السلطة زوجة غير شرعية للصهاينة”،”البقاء تحت حكم سلطة عباس هي أكبر خيانة”، ما يعكس اهتراء شرعية السلطة في وعي قطاعات واسعة، بحيث بات التساوق مع التطبيع لا يبدو غريبًا على مشهد فيه السلطة نفسها متهمة بالأمر ذاته.
بالرغم من الهجوم على السلطة الفلسطينية واتهامها بالفساد والتنسيق الأمني، إلا أن الجمهور لم يقبل الاحتلال وأعوانه كبديل، وكثيرون عبروا عن مبدأ واضح: “السلطة فاسدة؟ نعم. ولكن الاحتلال خيانة؟ قطعًا لا”.،والمقارنة بين الطرفين قوبلت برد فعل غاضب: “الاحتلال ليس بديلاً لأي نظام مهما كان فاسداً”.
خامسًا: التمايز داخل الخليل
تؤكد كثير من التعليقات على أن ما حصل لا يمثل الخليل، بل وتطالبها بـ”الانتفاض على هذه الخيانة”، مما يعكس إدراكًا بأهمية الحفاظ على سمعة المدينة وهويتها: “الخليل لازم يطلعوا ضد”، “عباءة الخليل من بره ومن جوا شريفة ونظيفة”، “آل الجعبري الكرام… رحم الله شهداءهم”، وهذا يعبر عن إدراك عميق لرمزية الخليل وتاريخها البطولي الشريف في الذاكرة الفلسطينية الوطنية.
وقد سارع كثير من المعلقين إلى تبرئة عائلة الجعبري، مؤكدين أنها من أكثر العائلات شرفًا وتاريخًا في مقاومة الاحتلال، وقدّمت الشهداء والأسرى، وأن ما جرى لا يمثل العائلة بل هو تصرف فردي معزول. في المقابل، وجّه آخرون انتقادات شديدة اللهجة إلى البيان الصادر عن العائلة، معتبرين أنه ضعيف الصياغة وغير حاسم، ولا يعبّر عن خطورة ما قام به الشخص المعني. ورأى هؤلاء أن البيان كان يجب أن يتسم بلهجة أكثر صرامة، وأن يكون موقفًا رادعًا لمن تسوّل له نفسه المساس بالقضية الوطنية أو التعاون مع الاحتلال.
على صيعد متصل، أشار بعض المعلقين إلى أن مدينة الخليل تعاني من تفشٍّ واضح لظاهرة التعاون مع الاحتلال، ودعوا من وصفوهم بـ”الشيوخ المهادنين” إلى توجيه جهودهم نحو مقاومة الاحتلال بدل التفاهم مع منافقيه، وأكدوا أن العلاج لا يكون بتجميل السطح بل باقتلاع الجذر، لاسيما أن الخلل وصل أوساط شخصيات بارزة من أبناء الوطن، واختُزل هذا الإحساس في عبارة لافتة: “إن فسد الملح، فمن يُصلحه؟”.
سادسًا: تهكم وسخرية سوداء
لم تخلُ التعليقات من تهكم لاذع يحوّل الحدث إلى نكتة سياسية سوداء مثل: “اقوى نكتة اليوم صراحة”، “يعني راح نصير متل دبي؟ 🥹”، “أنا ساكن بالجبل لحالي أعمل إمارة؟”، “طخيخة الأعراس طلع بدهم استقلال”، وهذا التهكم لا يخفف من الغضب بقدر ما يكشف حالة فقدان الأمل وانهيار المعايير الواقعية في المشهد السياسي، حيث كل شيء بات ممكنًا ومجنونًا.
خلاصة
اعتبرت بعض التعليقات أن ما يجري هو نتيجة مباشرة لاتفاقية أوسلو، وضمن فكرة التفريط في أراضي الضفة الغربية لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وذهب كثيرون إلى وصفه بالعمالة، واتهام القائمين على “إمارة الخليل” بالعملاء الذين يخدمون أجندات الاحتلال. وبحسب عينة من التعليقات، هناك حالة واضحة من الرفض الشعبي والسخرية، تضاف إلى تخوف حقيقي من أي محاولة لتقسيم الضفة الغربية أو إعادة إنتاج نماذج “روابط القرى” القديمة تحت أسماء جديدة، ويبدو أن الجمهور يرى في هذه الطروحات مشاريع خيانة وطنية مغلفة بمصالح اقتصادية أو عشائرية مدفوعة من الاحتلال، وعبّر كثيرون عن قناعتهم بأن هذه المبادرات لا يمكن أن تظهر للعلن دون تنسيق مسبق مع جهات إسرائيلية، وأنها تمثل اختبارًا مبدئيًا من الاحتلال لقياس الرأي العام تمهيدًا للتنفيذ.
كما أظهرت التعليقات فقدان الثقة بالمنظومة السياسية الفلسطينية، مع شعور واسع بأن الانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة أصبح يُسوّق كأمر واقع تمهيدًا لنماذج أكثر خطورة، واستُحضرت في بعض الآراء الذاكرة الجمعية عن مصير من خانوا الوطن في السابق، وجاء الإجماع بأن هذه المشاريع، إن صحت، ليست إلا محاولات يائسة ستُقابل بالرفض مهما تم تغليفها بالشعارات.
يرى المعلقون أن مجرد تبرير هذه الطروحات أو مساواة السلطة بها يُعد تواطؤًا إضافيًا أو خيانة صريحة، وأن ما يُسمى “الانفصال الإداري أو السياسي” هو جزء من خطة إسرائيلية قديمة، يُجري تطبيقها الآن في الخليل كمرحلة اختبار، وقد شبّهها البعض بـ”تلميع الأحذية” تمهيدًا لارتدائها من قبل الاحتلال أو وكلائه. وكان الغضب موجّهًا ليس فقط نحو الفكرة، بل أيضًا نحو كل من يروّج لها أو يلتزم الصمت حيالها، وسط قناعة متزايدة بأن أطرافًا عدة، من السلطة إلى بعض العائلات، غارقة في هذا المخطط. وذهب فريق آخر إلى ما هو أبعد، حيث اتهموا السلطة الفلسطينية نفسها بالخيانة، متسائلين: كيف نطالب الأفراد بالثبات على المبادئ إذا كانت القيادة الرسمية قد باعت القضية؟ واعتبروا أن من باعوا القضية من أصحاب المناصب لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الذين يسعون للتطبيع علنًا مع الاحتلال.
* اعتمدت هذه القراءة الوصفية على منهجية الرصد والتحليل لاهتمامات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية حول القضية، معتمدة على تعليقاتهم على المنشورات الخاصة بالقضية، حيث شملت العينة عددا من المنصات على فيس بوك وتلغرام وصفحات إذاعات محلية وحسابات تيك توك وانستغرام وغيرها، فضلا عن تنوع المنصات بين المحلية على مستوى المحافظات وعلى مستوى الوطن. تم اختيار عينة مكوّنة من ست محافظات فلسطينية تمثل التوزيع الجغرافي للمجتمع الفلسطيني (الوسط، والشمال، والجنوب)، وهي: رام الله، ونابلس، والقدس، والخليل،وجنين وطولكرم، وبيت لحم، إضافة لمجموعة من المنصات على مستوى الوطن وهي الأكثر تأثيرًا ونشاطًا.


