توجهات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية حول أزمة الرواتب

إعداد مركز مقاربة للدراسات الإعلامية

النص بصيفة pdf هنا

تُعد أزمة الرواتب المرتبطة بأموال المقاصة واحدة من أكثر الأزمات المتكررة استمرارية وإثارة لغضب الشارع الفلسطيني، حيث تتقاطع فيها العوامل السياسية والاقتصادية مع مشاعر السخط والإحباط الشعبي، وفي ظل غموض التصريحات الحكومية وتكرار سيناريوهات الوعود دون تنفيذ، أصبحت تعليقات الجمهور على المنصات الرقمية مرآة صريحة لحالة الانفصال بين السلطة والمواطن، وللتحولات العميقة في المزاج العام.

في خضم هذا التآكل المتزايد في الثقة، تتصاعد نبرة السخرية والرفض، بل وتمتد إلى مستويات غير تقليدية من النقد والتهكم والرغبة في الانفكاك عن هذا الواقع. فما الذي تقوله هذه التعليقات وتعبر من خلاله عن وعي الناس واتجاهاتهم من الأزمة عبر المنصات الرقمية؟

 

اتجاهات الجمهور

سادت اتجاهات عدة للجمهور في خضم التعبير عن آرائهم بخصوص أزمة الرواتب منها:

أولاً: غضب واتهامات للحكومة

كانت الحكومة هدفا مباشرا لغالبية النقد في التعليقات، واتهم المسؤولون بالاستهتار بمعاناة الموظفين، والتلاعب بمصيرهم، وافتعال الأزمات، وتكررت عبارة “ارحلوا”، “حسبنا الله ونعم الوكيل”، “حرامية”، في تعبير واضح عن احتقان شعبي تجاه المؤسسة الرسمية، كما صورت بعض التعليقات الحكومة كـ”عصابة” تستغل غطاء “المقاصة” لتبرير الفشل والفساد، ومن العبارات التي ترددت “الحكومة عاملة فيلم هندي… ارحلوا عن صدورنا”، “الحفاظ على العصابة وعظام رقبتهم هو الحل”.

كما لوحظ من خلال التعليقات انعدام ثقة في التصريحات الرسمية، واتهامها بالكذب والتخدير،فيما قوبل السرد الحكومي المرتبط بـ”المقاصة”، و”الدعم الدولي المشروط”، و”الإجراءات البديلة” بتعليقات ساخرة أو غاضبة تتهم السلطة بالمماطلة والتغطية على اختلاس المال العام، ومن العبارات التي ترددت: “كل هده الأخبار إبر بنج”، “كل يوم والثاني ضغط أوروبي”، “المال بين أيديكم والله فوقكم مطلع”.

وبرز النقد للإعلام والخطاب الحكومي وتردد عبارات ناقدة مثل: كل مرة نفس العبارات، نفس التصريحات، نفس السيناريوهات”، “خلصنا من الاجتماعات اللي ما بتجيب شربة مي”، ما يدل على أن الخطاب الحكومي يُعاد تدويره بلا فاعلية، وأن الإعلام الرسمي لم يعد يملك أي قدرة على الإقناع أو إدارة المزاج الشعبي.

ثالثاً: سخرية تعكس الإحباط

استخدم الجمهور السخرية كأسلوب دفاع أمام العجز، مثل تشبيهات بـ”فيلم هندي”، أو مقارنة الاجتماعات الحكومية بعطلة الحلاقين، كما أن التعليقات تحفل بلغة مريرة وتهكمية مثل: “بدري ادرسي واتخرجي يا حكومة”، “هات أربع يشهدوا أنه تم التحويل”، “يمكن قطع النت ويسمح قطع الراتب”. هذه السخرية باتت تُفكك المنطق السياسي والاقتصادي، عبر تعليقات تهكمية مثل: “كوكب زحل قرب علينا 6 سم”، “فشل نموذج رذرفورد الذري”، “سبب الأزمة الزواج المبكر وطاقة الرياح”،
ما يعكس إدراكًا شعبيًا أن لا منطق يبرر استمرار الأزمة، فكل شيء بات مُباحًا للسخرية، بما في ذلك أساسيات العلم والسياسة. هذا الانزياح في الخطاب يعكس انعدام الأمل وتحوّل الألم إلى تهكّم.

كما لوحظ استهجان واسع لمصطلحات “التكافل الوطني” و”الإجراءات غير الاعتيادية” وتكررت التعليقات التي تسخر من هذه العبارات الرسمية التي لم تُترجم إلى حلول واقعية، حيث اعتُبرت شعارات جوفاء أو استهبالاً للعقول: “طيب خلي الجامعات والكهربا يتكافلوا”، “شو تعريف التكافل؟ بيقبلوا زيت وجرجير كأقساط جامعة؟”، “شو يعني إجراءات غير اعتيادية؟ طوشة مثلاً؟” ما يعكس سقوط اللغة الرسمية في وعي الناس وفقدانها لأي مصداقية، بل إن استعمالها يُثير السخرية والتهكم، لا الثقة أو الانتظار.

سابعاً: مقارنات بين الشعب والمسؤولين

كثير من التعليقات تقارن بين حياة الموظف الذي يعاني، والمسؤول الذي يتمتع بالرفاهية، وتطالب بأن يعيش الوزراء حياة الشعب ليشعروا بالمعاناة. “عيشوا عيشة المواطن بالأول”، “كل ما يجيهم دعم لهط في بطونهم”، “الراتب بالنسبة إلهم نثريات”.

كما ظهر بوضوح في التعليقات أن الجمهور بات يُحمّل المسؤولين الكبار وزر الأزمة بشكل مباشر: “أرصدة في الخارج، سيارات فخمة، وأبناءهم في أوروبا”، “سبب الخراب وجود عباس ووزراءه”، “19 حكومة و500 وزير = صفر إنجازات”،
وذلك يُعزز فكرة أن الناس لم تعد ترى في الأزمة مشكلة اقتصادية فقط، بل بنيوية سياسية قائمة على الفساد والانفصال الطبقي.

خامساً: نقد النظام الاقتصادي القائم على اتفاقيات “مكبّلة

تم تحميل اتفاقية باريس والمفاوضات السياسية مع الاحتلال جزءاً كبيراً من الأزمة، مع وصف هذه الاتفاقيات بأنها خيانة أو تسليم للقرار الاقتصادي والسيادي. “الحق على المفاوض يلي وقع على اتفاقية باريس”، “القرصنة مش من إسرائيل، بتصير في مكتب الرئيس”.

تُطالب تعليقات كثيرة بفصل رواتب الموظفين عن أموال المقاصة، والبحث عن بدائل حقيقية: “اعطوا الموظفين من إيرادات الحكومة الأخرى”، “الإيرادات مش بس المقاصة وين الضرائب؟”، “ليش بس الموظف مربوط بالمقاصة؟” وهذا يكشف أن الناس باتوا يُدركون أن ربط الراتب بالمقاصة أصبح أداة تحكم وإذلال سياسي، وليس شرطًا تقنيًا موضوعيًا.

كما برز توجه شعبي قوي ضد البنوك باعتبارها متواطئة أو مستفيدة من الأزمة: “بنوك بتعيط؟ معناته على الدنيا السلام”، “بنك الصفا؟ شكلكم بتحولونا”، “المصاري معنا وبتشحدونا”، ويُفهم من هذه الموجة أن الثقة تزعزعت حتى في الشركاء المفترضين للحل مثل البنوك والجامعات.

سادساً: لغة اليأس والإحباط

برزت لغة اليأس والإحباط، ووصف الوضع بأنه يشبه “حرب نفسية” أو “مخطط تهجير”، فالتعليقات تنقل واقعاً مأساوياً: “الناس ما ضل فيها حيل”، “والله الي بصير حرب نفسية لها الشعب الغلبان”، “أنا وولادي بلا أكل وشرب”.

تُظهر التعليقات يأسًا كبيرًا يدفع البعض للتفكير بالهروب الكامل: “أنا حأستقيل”، “الهجرة لألمانيا”، “اعملوا وزارة للشحاتين”، “خليهم يشحتوا زي الشعب”، وهذا تصعيد خطير في مزاج الشارع نحو اليأس الجمعي والخروج من المنظومة القائمة، وقد يتحول إلى فعل احتجاجي إن توفرت له بيئة حاضنة، ما يستدعي اهتماما كبيرا.

سابعاً: طرح حلول وتحذيرات من الانفجار الاجتماعي

رغم حالة الاحتقان، تتضمن التعليقات دعوات لاتخاذ خطوات حقيقية مثل تقليص امتيازات الوزراء، وحلول محلية، وتقاسم العبء مع البنوك، وهناك إشارات إلى إمكانية الانفجار الاجتماعي في حال استمر الاستهتار، مثل: “الشعب مش فارقة معه يموت”، “إذا ما صار تغيير حقيقي الشعب رح ينفجر”، “ما عاد حدا يتداين من حدا”.

لا توجد تعليقات تدافع عن الحكومة بشكل جاد، حتى من يحاول أن يكون محايداً يركّز على أن الوضع مأساوي وأن التصريحات بلا معنى، بل حتى المنشورات الإيجابية أو التوضيحية تلقى ردودًا ساخرة أو لاذعة.

 

خلاصة

لم تعد أزمة المقاصة والرواتب في وعي الجمهور الفلسطيني مجرد أزمة مالية، بل تحوّلت إلى رمز لفشل منظومة الحكم، وانسداد الأفق السياسي، وفقدان الثقة بين الشعب والسلطة، فالنقاش العام يعكس احتقاناً عميقاً ومتصاعداً، وخطاباً لا يخلو من السخرية، والتخوين، والدعاء على المسؤولين، والحنين لوضع أكثر عدلاً أو بديل سياسي جذري، وهذا وبالرغم أنه احتقان في وجه السلطة إلا أنه يحمل وجها آخر ينبغي الانتباه له وهو البدائل التي قد يسعى الاحتلال لاستحداثها مستغلا من هذه الأزمات.

يرى الجمهور أن السلطة تستخدم أزمة المقاصة شماعة لتبرير فسادها وسوء إدارتها، معتبرين أن الأزمة “مفتعلة” أو “مصنوعة” من الداخل بقدر ما هي مفروضة من الخارج، وهناك فقدان شبه تام للثقة ليس فقط بالسلطة، بل بالبنوك، والمؤسسات الرسمية، والجهات المانحة، مع انتشار شعور جمعي بأن الموظف والمواطن العادي هما الحلقة الأضعف التي يُلقى عليها عبء الأزمة وحدها.

تعكس التعليقات رفضًا واسعًا لما تسميه الحكومة “التكافل الوطني”، وتُعدّه إهانة مضاعفة، خاصة في ظل التراجع المستمر في نسبة صرف الرواتب، وتأخرها، وتقسيمها إلى دفعات. باتت عبارات مثل “ننتظر أموال المقاصة” تُقابل بالسخرية، إذ يرى الناس أن الحكومة تحولت إلى جهاز تكرار لتصريحات لا تتغير، وأن كل اجتماع أو تصريح جديد يزيد من شعورهم بالخذلان لا الأمل.