تفاعلات الجمهور الرقمية حول سياسة المجاعة بقطاع غزة

إعداد مركز مقاربة للدراسات الإعلامية

النص بصيفة pdf هنا

تمهيد

في خضم مشهد إنساني شديد القسوة، تتصدر المجاعة في قطاع غزة واجهة الاهتمامات الفلسطينية، كواحدة من أكثر الأزمات إيلامًا في تاريخ الصراع، ليس فقط بما تحمله من صور الأطفال الجائعين والبطون الخاوية، بل بما تعكسه من شعورٍ عارم بالخذلان واللاجدوى وفقدان السيطرة. ومع تراجع الاستجابة الرسمية والشعبية، حيث بدأت ملامح هذه المجاعة تتفاقم منذ بداية الحرب عام 2023، نظرا لإغلاق المعابر والبدء بتدمير البينة الزراعية والحيوانية ومنع الصيد، وتدريجيا أخذت بالتصاعد لتصل إلى ما عليه الآن، في ظل منع إدخال المساعدات وغياب أي ممر إنساني آمن،

من جهتهم عبر الفلسطينيون عبر المنصات الرقمية عن هذا الحدث الجارح بلغاتٍ متباينة، تتراوح بين الغضب، واليأس، والدعاء، والنقد المرّ، مما وفّر أرضية خصبة لرصد تفاعلات الجمهور عبر المنصات الرقمية.

 

توجهات الجمهو ر في التعليقات

تعكس تعليقات الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي انطباعات وتوجهات الجمهور الفلسطيني حول القضية، وتتضمن هذه التعليقات التوجهات الآتية:

  1. الدعاء والتضرع

شكّلت الدعوات إلى الله النسبة الأكبر من التعليقات، حيث لجأ كثيرون إلى التعبير عن تضامنهم من خلال الدعاء بالفرج والرحمة لأهالي غزة، وطلب الغوث من الله وحده، وهذا النمط يعكس حالة من القهر واللا حول لدى المتابعين، بحيث أصبح الحل خارج أيدي البشر، وتحوّل الخطاب الرقمي إلى مساحة روحية للهروب من وجع الواقع ومرارة العجز، وعلى سبيل المثال: “اللهم كن عونًا لهم”، “ما إلهم غيرك يا رب”.

  1. غضب واتهام مباشر للأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية بالتخاذل والتواطؤ

شكّل هذا التوجه حالة من النقد الحاد للأنظمة السياسية، وخصوصًا السلطة الفلسطينية والنظام المصري، حيث تكرّرت اتهامات بأنهما سبب مباشر أو شريك في استمرار الحصار والتجويع، ويعبّر ذلك عن سقوط الثقة بالقيادات الرسمية، واعتقاد واسع أن هذه الجهات لم تعد تمثّل شعبها، بل تقف ضده أو على الأقل لا تعبأ بمصيره. في حين استخدم البعض خطاباً ساخراً أو حاداً  لهدم شرعية هذه الأنظمة أمام الرأي العام، مثل: “السلطة نايمة”، “مصر شريكة في الحصار”، “يا مسؤولين قوموا شوفوا الناس بتموت”.

  1. اتهام المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بالنفاق والصمت

عبّر عدد كبير من المُعلقين عن إحباط بالغ من دور المؤسسات الدولية (كالأمم المتحدة والصليب الأحمر)، واعتبر كثيرون أن صمت هذه الجهات دليل على ازدواجية المعايير تجاه الفلسطينيين، وهذا التوجه يكشف عن شعور عام بأن غزة خارج حسابات الإنسانية، وأن المعاناة الفلسطينية لا تُعامل بمعايير العدالة أو الحقوق كما يحدث في قضايا أخرى حول العالم، ومن الأمثلة على ذلك: “لو كانوا بأوكرانيا زمان تدخّلوا”، “الضمير العالمي ميت”.

  1. دعوات متزايدة للحراك الشعبي العملي

في عدد من التعليقات، برزت مطالب بالخروج للشارع، أو الاعتصام أمام المعابر، أو تنفيذ وقفات غضب، خاصة في الضفة الغربية والشتات، كردّ فعل على تفاقم المجاعة، حيث تعكس هذه الدعوات رغبة في الفعل الميداني، لكنها في الوقت ذاته تصطدم بواقع من الخوف والقيود الأمنية أو الشعور بعدم الجدوى. فبعض المعلقين ركّزوا على الإشادة بالمدن التي تحركت فعليًا (مثل جنين)، ما يشير إلى تعطّش لرؤية نماذج تحرّك تعيد للناس إحساس الفعالية والانتماء. مِثل: “جنين مش غريبة تطلع عشان غزة”. فضلا عن حراك في مناطق أخرى مثل نابلس ورام الله.

  1. سخرية ونقد للخطابات القومية

لجأ كثيرون إلى خطاب ساخر أو ناقد للشعارات المعروفة مثل “العمق العربي”، و”العروبة”، أو حتى الخطاب الديني الرسمي، معتبرين أنها أصبحت بلا معنى أمام واقع الموت جوعاً في القطاع. كما استُحضرت شخصيات تاريخية (مثل عمر بن الخطاب) في تعليقات توبيخية لتسليط الضوء على غياب القيم الحقيقية اليوم، وهذا النوع من الخطاب يكشف حالة الفجوة بين الخطاب الرسمي الديني اليوم فشل في تقديم استجابة حقيقية للأزمة والتاريخ الإسلامي، كمثال: “لو عمر بن الخطاب كان عايش، ما جاع طفل في غزة”، “صرنا نخجل نحكي عربي”

  1. استعدادات للتبرع والإغاثة

عبّرت عدد من التعليقات عن استعدادات للمساهمة المالية أو اللوجستية لدعم غزة، عبر حملات تبرع أو اقتطاع من الرواتب أو تحويلات مباشرة، حيث يكشف هذا عن استعداد شعبي للتضحية رغم الفقر والمعاناة في الضفة، ولكنه أيضًا مؤشر على فقدان الثقة بالمؤسسات الرسمية في إدارة الإغاثة. مثال: “افتحوا حساب مباشر لغزة”، “والله نتبرع من لقمتنا”.

  1. تحذير من وصمة تاريخية ستلاحق الجميع

بعض التعليقات حملت نبرة ندم مسبق وتحذير أخلاقي من أن المجاعة في غزة ستكون عارًا على الجميع، شعبًا وحكومات، حيث يحمّل هذا الخطاب المجتمعات العربية والفلسطينية مسؤولية الصمت والتقصير، ويربط ما يحدث اليوم بذاكرة سوداء لن تُمحى بسهولة.مثال: ” سيسألنا أطفال غزة يومًا: لماذا تركتمونا؟”، “لن يغفر لنا التاريخ هذا الجوع”

 

دلالات التوجهات

من خلال ردود أفعال الجمهور الفلسطيني إزاء أزمة المجاعة بقطاع غزة تبرز عدة دلالات رئيسية لهذه التفاعلات منها:

أولاً: برزت موجة واسعة من التعليقات التي عبّرت عن المجاعة باستخدام المصطلحات الدينية، من خلال الأدعية، والآيات، وعبارات مثل “يا رب فرّج عنهم”، و”حسبنا الله”، و”أقسم بالله قلبي انفطر”. هذا التوجه يُعدّ وسيلة تفريغ نفسي، ويعكس حجم الألم والتضامن الشعبي، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى عجز الجمهور عن ممارسة تأثير مادي مباشر، فيلجأ إلى اللغة الرمزية والروحية.

ثانياً: وجّهت تعليقات كثيرة نقدًا مباشرًا لمصر بسبب إغلاق معبر رفح أو فتحه المحدود، كما اتهمت السعودية والإمارات بالمشاركة في الحصار من خلال صمتها أو تطبيعها، وهذا الاتهام يُظهر وعيًا شعبيًا متزايدًا بتعقيدات السياسة الإقليمية، ويرتبط بشعور بالخذلان من محيط يُفترض أن يكون سندًا.

ثالثاً: حضر نقد لاذع للسلطة الفلسطينية تحديدًا، إذ وُصفت مواقفها بالهزيلة، وخطاباتها بالإنشائية أو “التمثيلية”. كما سخر كثيرون من بعض التصريحات الرسمية، ما يعكس فقدانًا للثقة في قدرتها على تمثيل الشارع الفلسطيني أو تقديم حلول حقيقية، ويؤشر هذا  إلى انقطاع شعبي متزايد عن المشروع السياسي التقليدي.

رابعاً: ظهرت تعليقات تعبّر عن حالة من جلد الذات مثل “سامحونا يا أهل غزة”، “مقصرين بحقكم”، “ما معنا غير الدعاء”. هذه اللغة تعبّر عن شعور بالذنب الجماعي، وتكشف إدراكًا شعبيًا عميقًا للفجوة بين حجم المأساة في غزة والقدرة الفعلية على الاستجابة أو التأثير، سواء من الجمهور أو المؤسسات.

خامساً: رغم أنها قليلة، برزت بعض التعليقات التي حمّلت المقاومة الفلسطينية مسؤولية الوضع، أو اتهمت بعضاً من وسائل الإعلام بالتحريض والمبالغة، وتعكس هذه الأصوات مواقف متأثرة بالاستقطاب السياسي أو بالتعب المعيشي والنفسي، و لكنها تظل هامشية مقارنة بموجة التضامن العامة.

سادساً: ظهرت دعوات في بعض التعليقات لتنظيم وقفات أو احتجاجات أمام المؤسسات الدولية أو السفارات العربية، إلا أن هذه الدعوات لم تتحول إلى حركة جماهيرية واسعة على الأرض. وهذا يشير إلى فجوة بين الشعور بالغضب والرغبة في الفعل من جهة، وبين الواقع العملي والظروف السياسية أو الأمنية التي تكبّل الفعل الشعبي من جهة أخرى.

التوصيات

في ضوء دراسة توجهات الجمهور نحو قضية المجاعة، نقدم في هذا التقرير توصيات لوسائل الإعلام لأخذها بعين الاعتبار:

  1. توجيه الجمهور أن بإمكانه المساهمة بفاعلية في تخفيف واقع المجاعة عن غزة من خلال تكثيف النشر باللغة الإنجليزية واللغات الأخرى ومخاطبة شعوب العالم، ونشر قصص من واقع هذه المعاناة.
  2. إطلاق مبادرات توفير المؤسسات الإعلامية مواد وإنتاجات خاصة بغزة وفتح الباب أمام المتطوعيين للمساهمة في الترجمة والإنتاج والنشر، ليكون لكل فرد دور ولا يكتفي باللوم أو الكلام .
  3. ظهر شعور بالذنب في التعليقات، لذا من المهم للإعلام أن يظهر بوضوح وكثافة نماذج التضامن في أي محافظة لتشكل حافزا لغيرها من المحافظات.
  4. التركيز على التحركات الفعالة وإبرازها مثل قصة الشاب أنس حبيب الناشط المصرى الذى أغلق وحــاصر وجــوّع السفارة المصرية في هولندا، نموذج يمكن أن يلهم شباب آخرين للقيام بمثل هذا الفعل.
    وإبراز المبادرات الفردية الصغيرة لتشجيع التفاعل المحلي مع القضية.
  5. الانتقال من التغطية الوصفية إلى التغطية التفاعلية، فمن المهم ألا تكتفي وسائل الإعلام بعرض مشاهد المجاعة والبؤس، بل يجب أن توجه الرسالة نحو التحريض على الفعل والمبادرة، مثل: تسليط الضوء على الحملات الشعبية، والترويج لأدوات ضغط فعلية (كمخاطبة المسؤولين، ونشر العرائض، والمقاطعات،…)
  6. تجنّب الخطاب المبني على الشعارات حيث كان هناك نقد واضح لما سماه الجمهور “الشعارات الجوفاء”، خصوصًا من المسؤولين الفلسطينيين. لذا، من الضروري أن تبتعد وسائل الإعلام عن ترديد التصريحات الرسمية التي تحمل هذه الشعارات، وتستبدلها بمضامين واقعية، مدعومة بمعلومات دقيقة، وتحليلات عميقة للمسؤوليات.
  7. إنتاج مواد إعلامية تُظهر حجم المأساة دون تحويلها إلى مشهد عابر معتاد، مع مراعاة البعد الإنساني بعيدًا عن الاستهلاك البصري، وتجنب التكرار وعدم إعادة نشر الصور ذاتها أو العناوين حتى لا تتكون الرتابة والروتين لقضية يجب أن تبقى حية، والسعي لصياغة محتوى متجدد يثير تفاعل الجمهور.
  8. توجيه بعض الحملات نحو حث السلطة الفلسطينية والإعلام الرسمي للضغط عليها إعلاميًا ومجتمعيًا لتأخذ دورها في تحمل المسؤولية عن شعبها في القطاع.
  9. مواجهة التشكيك بوجود المجاعة من خلال نشر شهادات موثقة ومقاطع موثوقة تُظهر الواقع كما هو(للأسف بعض الأصوات ظهرت تشكك في وجود المجاعة وتعبر أن ما يجري تضخيم إعلامي).

 

توصيات عامة:

  1. توسيع قاعدة التفاعل وتكثيف النشر بلغات متعددة خاصة الإنجليزية ولغات الشعوب المؤثرة عالميًا، لتوسيع قاعدة التضامن والضغط الدولي.
  2. فتح الباب أمام المتطوعين في الترجمة والإنتاج والترويج للمحتوى المتعلق بالمجاعة.
  3. التعاون مع مؤثرين من خارج الاهتمام السياسي مثل صناع المحتوى الفلوقرز وغيرهم، لنقل الرسالة بلغة إنسانية غير تقليدية.
  4. عدم حصر الفئة المستهدفة بالبالغين بل تضمين الأطفال في المحتوى والمبادرات، لما لهم من قدرة على التأثير في محيطهم.
  5. حملات إعلامية للضغط على مصر في كل دول العالم خاصسة على سفاراتها.

 

* اعتمدت هذه القراءة الوصفية على منهجية الرصد والتحليل لتعليقات الجمهور الفلسطيني عبر المنصات الرقمية حول القضية، معتمدة على تعليقاتهم على المنشورات الخاصة بالقضية، حيث شملت العينة عددا من المنصات على فيس بوك وتلغرام وصفحات إذاعات محلية وحسابات تيك توك وانستغرام وغيرها، فضلا عن تنوع المنصات بين المحلية على مستوى المحافظات وعلى مستوى الوطن. تم اختيار عينة مكوّنة من ست محافظات فلسطينية تمثل التوزيع الجغرافي للمجتمع الفلسطيني (الوسط، والشمال، والجنوب)، وهي: رام الله، ونابلس، والقدس، والخليل،وجنين وطولكرم، وبيت لحم، إضافة لمجموعة من المنصات على مستوى الوطن وهي الأكثر تأثيرًا ونشاطًا.