تغطية المنصات الرقمية الفلسطينية لموضوعات الأقصى والمقدسات وتفاعلات الجمهور معها (فيس بوك نموذجا)

مركز مقاربة للدراسات الإعلامية والاستشارية

لقراءة الدراسة كاملة بالرسوم البيانية من هنا

تمهيد

يمثل المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس جوهر الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فهي ليست مجرد أماكن للعبادة والروحانيات، بل رموزًا للهوية الوطنية والدينية والحضارية للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية جمعاء. ومع تصاعد سياسات التهويد والاقتحامات والاعتداءات اليومية، يغدو الاهتمام الإعلامي بهذه القضية ضرورة ملحّة، ليس فقط لتوثيق الانتهاكات، وإنما أيضًا لحشد الرأي العام وتشكيل وعي جماعي يدافع عن حق الفلسطينيين في مدينتهم ومقدساتهم. ومن هنا تنبع أهمية هذه الدراسة التي ترصد كيفية تناول المنصات الرقمية الفلسطينية، وخاصة الصفحات الأكثر انتشارًا على “فيس بوك”، لقضية الأقصى والمقدسات، وكيفية تفاعل الجمهور معها خلال فترة زمنية حساسة، إدراكًا أن الإعلام الرقمي بات ساحة رئيسية للصراع على السردية والرواية، وأداة محورية في إبقاء القدس والأقصى في صدارة الاهتمام الشعبي والإعلامي.

تأتي هذه الدراسة لرصد وتحليل تغطية المنصات الرقمية الفلسطينية، وخاصة الصفحات الأكثر انتشارًا على “فيس بوك”، لموضوع الأقصى والمقدسات، والتي تزامنت مع أحداث بارزة مثل الاقتحامات اليومية للمستوطنين، ومحاولات تهويد مقبرة باب الرحمة، والذكرى السادسة والخمسين لإحراق المسجد الأقصى.

منهجية الدراسة

تعد هذه الدراسة من الدراسات الوصفية التي تصف الظاهرة كما هي في الواقع، من خلال رصد معالجة الصفحات وتفاعلات الجمهور مع الموضوعات المختلفة خلال فترة الرصد الممتدة بين (1–21 آب 2025)، فضلا عن تتبع التكرار مع الكلمات المفتاحية الدالة على الموضوعات.

شملت عينة الدراسة مجموعة واسعة من الصفحات والحسابات الفلسطينية النشطة على منصة فيسبوك، تنوعت بين الصفحات الإخبارية المحلية، والمؤسسات الرسمية، والشخصيات الإعلامية والنشطاء، إلى جانب الصفحات المجتمعية. فقد ضمت صفحات إذاعية مثل راديو موال، راديو بلدنا، وصفحات إخبارية محلية مثل طولكرم الإخبارية، أخبار الخليل، مدينة نابلس، طولكرم نت، أخبار السموع لحظة بلحظة، شبكة جنين الإخبارية، وكذلك الصفحات المجتمعية كـ بلدية سنجل، بلدية قلقيلية، ابتسم أنت في القدس، بيت صفافا الآن، قُصرة أون لاين، عانين – جنين، مخيم بلاطة الصمود، إضافة إلى صفحات شخصيات عامة وصحفيين مثل الصحفي معين شديد، المصور الفلسطيني محمد فراسيني، حسن المسالمة، قصي يعقوب الحلايقة، د. ليلى غنام، وصفحات تمثل تجمعات أو مبادرات مثل جمعية إنسان للعمل الوطني – جنين، الأشبال والزهرات إقليم جنين.

كما شملت عينة الدراسة* صفحات عامة واسعة الانتشار، ذات حضور وطني وجماهيري على مستوى فلسطين، ومن أبرزها تلفزيون فلسطين، ورام الله الإخباري، ووكالة معا الإخبارية، وجريدة القدس – alquds، ودوز ودوز طولكرم وغيرها من الصفحات. وهذا التنوع في العينة بين الصفحات العامة والمناطقية، والرسمية والشخصية، يعكس محاولـة لالتقاط مختلف زوايا التغطية لموضوع الأقصى والمقدسات، ويتيح فهمًا أشمل للفروقات في أولويات النشر ومستويات التفاعل بين المحافظات الفلسطينية والمجتمع الرقمي بشكل عام.

اقتصرت العينة في هذه الدراسة على الصفحات الفاعلة على منصة فيس بوك داخل فلسطين وعلى وجه الخصوص الضفة الغربية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العديد من الصفحات أُغلقت أو قُيّدت نتيجة محاربة المحتوى الفلسطيني، فضلا عن سياسات الاحتلال في ملاحقة الناس بسبب تفاعلاتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهذا يحدّ من إمكانية تعميم النتائج بشكل كامل على المشهد الرقمي الفلسطيني، إذ إن الإغلاق المتكرر يدفع الكثير من هذه الصفحات إلى الانتقال للنشر عبر منصات بديلة مثل تلغرام، ما يعني أن قياس التفاعل في الدراسة لا يعكس بالضرورة الحجم الحقيقي للنشاط الإعلامي المرتبط بالقدس والأقصى عبر مختلف المنصات الرقمية فيما أنه يعد مؤشر مهم لكثير من الصفحات التي تعكس طبيعة نشرها.

أحداث مرتبطة بالأقصى والمقدسات

برزت خلال شهر آب الحالي عدة أحداث مرتبطة بالمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في فلسطين، تنوعت بين مشاهد الصلوات  في ساحات المسجد الأقصى وخاصة صلاتي الفجر والجمعة، والتغطيات المباشرة للأذان والخطب والأدعية التي تحمل أجواء روحانية، إلى جانب اقتحامات المستوطنين اليومية بأعداد متفاوتة وصلت أحياناً إلى أكثر من مئتين خلال الفترتين الصباحية وبعد الظهر، ترافقها صلوات وطقوس علنية ورفع للأعلام الإسرائيلية داخل باحات الأقصى وصحن قبة الصخرة، بمشاركة شخصيات سياسية وأمنية مثل بن غفير ووزير الجيش كاتس وبحماية قوات الاحتلال. كما وحضرت الاعتداءات على مقبرة باب الرحمة ومحاولات تهويدها، إلى جانب التنديد بـ تخريب كنيسة بانياس وما تبعه من دعوات للتظاهر ضد المس بالمقدسات، وكذلك نشر صور من الفعاليات المجتمعية داخل الأقصى مثل المخيمات الصيفية للأطفال والدروس الدينية، فضلاً عن مشاهد يومية من القدس وباب العامود وصور الغروب والطيور في الباحات.

في السياق ذاته، مرت الذكرى السادسة والخمسين لإحراق المسجد الأقصى في 21 من شهر آب عام 1969، وفي هذه الذكرى كان النشر عبر صفحات فيس بوك الفلسطينية على نطاق ضيق اقتصر  على  منشورات ضمن عينة المنصات المرصودة تضمنت  بيانات ودعوات لشد الرحال والرباط في المسجد، وجزء من كلمة للشيخ عكرمة صبري الذي شارك في إطفاء الحريق آنذاك، وبيان محافظة القدس الذي حذّرت فيه من محاولات الاحتلال فرض التقسيم الزماني والمكاني وعزل القدس عن محيطها.

معالجة المنصات والتفاعلات

تعتبر عينة الصفحات هي الأكثر تفاعلا من قبل الجمهور على مستوى الضفة الغربية، سواء المحافظات أو الصفحات العامة والتي تحظى بانتشارروتفاعل واسع، وقد تم دراسة موضوع الأقصى والمقدسات في تغطيات العينة خلال فترة الدراسة. الرسم البياني (1) يوضح عدد المنشورات التي نشرتها الصفحات عينة الدراسة.

 

يتضح من التحليل أن منصات القدس مثل: مركز معلومات وادي حلوة، وابتسم أنت في القدس تصدّرت عدد المنشورات المتعلقة بالأقصى والمقدسات بحد أقصى 81 منشورا سجلت لمركز معلومات وادي حلوة، تليها ابتسم أنت في القدس 18 منشورا، فيما تراجع الاهتمام في الصفحات الكبرى على مستوى الوطن وتقدم منها: راديو بلدنا ب 12 منشورا،و الخليل مكس ب 12 أيضا، وشبكة الإرسال بعدد منشورات 9 فقط، فيما كان النشر قليلا في الصفحات الأخرى.

يلاحظ أن الصفحات الكبرى تُوزّع جهدها واهتمامها على قضايا أخرى مثل الحرب على غزة، فتُنتج في ملف القدس جرعة منخفضة لا تصنع اهتماما تراكميا لدى الجمهور وبالتالي تساهم في تقليص الاهتمام بالمقدسات والمسجد الأقصى وإن كانت بصورة غير مقصودة.

يوضح الرسم البياني (2) صفحات فيس بوك وتفاعل الجمهور مع موضوع القدس والمقدسات، حيث إن التفاعل يتضمن مجموع المشاركات والإعجابات والتعليقات مع المنشورات المتعلقة بالأقصى والقدس.

يوضح الرسم البياني التفاعلات مع موضوع الأقصى والمقدسات في الصفحات عينة الدراسة، حيث يتضح تصدر صفحة جريدة القدس تفاعلات الجمهور يليها صفحة الناشط المقدسي حسن شعلان ثم صفحتي مركز معلوماتى وادي حلوة وابتسم أنت في القدس وهما صفحتان من القدس، يتبعهما  صفحة شبكة الإرسال من رام الله، فيما يتراجع التفاعل في الصفحات العامة المشهورة التي تتصدر يوميا التفاعل مثل رام الله الإخبارية ووكالة معا وغيرها.

ومع هذه البيانات يلاحظ أن منشورات الأقصى لم تحقق تفاعلا ملحوظا على الصفحات طوال الفترة الماضية، بحيث لم يتجاوز  أي منشور خط 1000 تفاعل،

تم اللجوء في التحليل أيضا إلى الكلمات المفتاحية في المنشورات لتعزيزه، والرسم البياني (4) يوضح تكرار الكلمات المفتاحية في المنشورات وتفاعلات الجمهور مع المنشورات التي تتضمنها.

يتضح من الرسم البياني أن تفاعل الجمهور مع المنشورات التي تتضمن كلمة المسجد 22500 تفاعل، يليها المسجد الأقصى 14180 تفاعل ، فيما تتراجع الكلمات الدالة على المقدسات كحائط البراق والمصلىين والكنائس وغيرها، مع ملاحظة أن كلمة الأقصى ليست مقتصرة على المسجد الأقصى فهناك كلمات الحد الأقصى وغيرها لذا تم استبعادها من التحليل.

 

 

 

 

 

يوضح الرسم البياني (4) تفاعلات الجمهور مع موضوع الأقصى والمقدسات خلال الفترة الزمنية التي تمت فيها الدراسة.

يتضح من الرسم البياني أن هناك تغييرات في التفاعل مع الموضوع مع الأيام بين تقدم وتراجع في حدود تقدم متواضعة جدا في عمومها، فيما يلاحظ زيادة قبل أيام من ذكرى إحراق المسجد الأقصى في التفاعل مع الموضوع، لا سيما يوم 15/8 الذي كان يوم جمعة وتناقلت الصفحات فيه خبر صلاة الجمعة.

يوم ذكرى إحراق المسجد الأقصى تم نشر 15 منشورا فقط على الصفحات عينة االدراسة مسجلة ما مجموعه 807 تفاعل فقط،  أغلبها على صفحة مركز معلومات وادي حلوة المقدسي.

 

 

موضوع الأقصى ضمن المواضيع الأخرى

يوضح رسم بياني(5)  موضوع الأقصى والمقدسات من زاوية تفاعل الجمهور مع الموضوع بين الموضوعات الأخرى.

يتضح أن الأقصى والمقدسات يتأخر إلى المترتبة 27 في سلم تفاعلات الجمهور مع الموضوعات.

رسم بياني آخر يوضح الموضوع يوم ذكرى إحراق المسجد

يمكن قراءة تراجع اهتمام المنصات الرقمية الفلسطينية بموضوع الأقصى والمقدسات وتراجع تفاعل الجمهور معه من عدة زوايا مترابطة، تعكس طبيعة اللحظة الراهنة والسياقات المحيطة بالقضية:

أولًا: انشغال المنصات بالموضوعات الساخنة الآنية

تتحرك المنصات الرقمية الفلسطينية بطبيعتها مع وقع الأحداث، ومع استمرار الحرب على غزة وما نتج عنها من مجازر، حصار وتجويع، ومفاوضات معقدة حول الأسرى والهدنة، باتت الأولوية في النشر مركزة على هذه الملفات. هذا الانشغال جعل موضوع الأقصى والمقدسات – رغم مركزيته – يتراجع في الأجندة الرقمية اليومية، لأن حجم الجهد الإعلامي موجّه نحو غزة وما تشهده من شلال دماء ومعاناة إنسانية غير مسبوقة.

ثانيًا: التفاعل الشعبي في ظل الأزمة الإنسانية

يعيش الجمهور الفلسطيني حالة إنهاك غير مسبوقة، حيث يواجه صور الموت والجوع والقصف يوميًا في غزة، إلى جانب اعتداءات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية. في هذا المناخ المثقل، يصبح من الصعب على الجمهور أن يمنح نفس القدر من التفاعل لموضوع الأقصى، حتى مع خطورته. يمكن القول إن “المشهد الاستثنائي في غزة” غطّى على باقي القضايا، وأدى إلى فتور نسبي في التفاعل مع الأقصى والمقدسات.

ثالثًا: اعتياد تكرار مشهد الاقتحامات والاعتداءات

باتت الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى تُقدّم للجمهور كحدث متكرر ومألوف، ما يقلل من حدّة التفاعل معه. إذ أن التغطية الإعلامية لا تجد دائمًا “الجديد” الذي يستفز الرأي العام، خاصة إذا لم تترافق الاقتحامات مع مواجهات واسعة أو قرارات سياسية مفصلية، ويخلق هذا الاعتياد على التكرار نوعًا من التطبيع السلبي في وعي الجمهور، وهو ما يفسر ضعف التفاعل مقارنة بموضوعات أكثر آنية واستثنائية مثل الحرب على غزة.

رابعًا: كثافة وتنوع النشر في موضوعات أخرى

تميل المنصات الرقمية – خاصة الكبرى منها –إلى تنويع محتواها لتلبية اهتمامات الجمهور الواسع، ما يؤدي إلى تراجع مساحة النشر الخاصة بالأقصى والمقدسات، وكثافة النشر في القضايا السياسية اليومية، والحوادث، والموضوعات الاجتماعية والخدماتية، تجعل المحتوى المرتبط بالأقصى لا يحصل على الزخم المطلوب لبناء اهتمام تراكمي، وبالتالي يظهر الأقصى كموضوع عابر لا يفرض نفسه في صدارة المحتوى، رغم أهميته الوطنية والدينية.

يعكس تراجع الاهتمام بالأقصى تداخلاً بين ضغط الأحداث الكبرى، والإنهاك الشعبي، واعتياد التكرار، وتشتت المنصات في أولوياتها، ومع أن عينة الدراسة ضمت صفحات متنوعة ذات اهتمامات سياسية واجتماعية ودينية، إلا أن السياق العام غلّب الأولويات الساخنة والمباشرة على القضايا الرمزية والتاريخية. وهذا يطرح تحديًا أمام الإعلام الفلسطيني: كيف يمكن إعادة القدس والأقصى إلى مركز السردية اليومية رغم زخم الأحداث الأخرى، بحيث لا تغيب هذه القضية الجوهرية عن الوعي الجمعي؟

توصيات

نقدم جملة من التوصيات لوسائل الإعلام الفلسطيني:

  1. زيادة الجرعة الإعلامية الخاصة بالقدس والأقصى عبر خطط نشر يومية تضمن تراكم الوعي، وعدم الاكتفاء بمنشورات موسمية أو مرتبطة بذكرى معينة.
  2. تعزيز السردية المقدسية من خلال إنتاج محتوى بصري (فيديوهات، صور، إنفوغرافيك) يبرز البعد الروحاني والديني والسياسي للمسجد الأقصى والمقدسات، والاهتمام بالقصص الحية.
  3. تفعيل الخطاب التفاعلي مع الجمهور عبر الأسئلة والاستطلاعات والبث المباشر، بما يحفّز مشاركة أكبر ويخرج المتابع من موقع المتلقي السلبي.
  4. توظيف المؤثرين الرقميين خصوصًا المقدسيين، لتوسيع نطاق وصول الرسائل وربطها بالهوية الوطنية والدينية.
  5. الربط بين الأحداث الميدانية والقضايا الكبرى (كالاستيطان، التهويد، الانتهاكات) بشكل مستمر، بما يعزز إدراك الجمهور لخطورة السياسات الإسرائيلية تجاه الأقصى.
  6. التنسيق الإعلامي بين الصفحات لتجنب تشتت الجهود وضمان أن تحظى المناسبات المركزية مثل ذكرى إحراق الأقصى بتغطية مضاعفة ومؤثرة.

خلاصة

تبرز نتائج الدراسة أن موضوع الأقصى والمقدسات، رغم أهميته الدينية والوطنية، ظل محدودًا في الاهتمام الإعلامي والجماهيري، حيث لم يحقق النشر تفاعلًا واسعًا ولم يتجاوز سقفًا منخفضًا من التفاعلات، ولم يكن التعامل معه يرقى لكونه قضية مركزية ضمن أجندة التغطية الإعلامية الفلسطينية على “فيس بوك” خلال الفترة المرصودة، وتراجع الموضوع إلى المرتبة 27 بين اهتمامات الجمهور، وهو ما يعكس فجوة بين خطورة الحدث وحضوره الإعلامي وتفعال الجمهور معه.

إن هذا الواقع يفرض على وسائل الإعلام إعادة النظر في استراتيجياتها الرقمية، والانتقال من المعالجة الحدثية الضيقة إلى تبني رواية إعلامية متواصلة تعزز مكانة القدس والأقصى في وعي الجمهور، وتنهض بحالة التفاعل الشعبي بما يوازي قدسية المكان وخطورة التحديات التي يواجهها.